.png)

رئيس قسم الزيوت والدهون بمعهد بحوث الصناعات الغذائية والتغذية بالمركز القومي للبحوث.
هل تعلم أن بعض الدهون والزيوت التي تدخل في وجباتك اليومية قد تحمل وراء مظهرها البسيط تأثيرات صحية عميقة؟
الهدرجة، وهي إحدى العمليات الصناعية التي ابتكرها العلم لتحويل الزيوت النباتية السائلة إلى دهون أكثر صلابة وثباتًا، لعبت دورًا محوريًا في تطور الصناعات الغذائية الحديثة. غير أن هذه العملية، إذا لم تُدار علميًا وبصورة صحيحة، قد تُفضي إلى تكوّن مركبات خفية ثبت ارتباطها بمخاطر صحية جسيمة. في هذا المقال، نكشف كيف يمكن للهدرجة أن تكون أداة ابتكار صناعي من جهة، وتحديًا حقيقيًا لحماية صحة المستهلك من جهة أخرى، وما الذي ينبغي أن يعرفه كل من المستهلك وصانع الغذاء على حد سواء.
في مطلع القرن العشرين، شكّلت الهدرجة ثورة حقيقية في عالم الصناعات الغذائية، إذ أتاحت تحويل الزيوت النباتية السائلة إلى دهون صلبة أو شبه صلبة أكثر ثباتًا، ووفّرت بديلاً اقتصاديًا وعمليًا للدهون الحيوانية. هذا التطور أسهم في انتشار واسع لمنتجات غذائية جديدة، ولبّى متطلبات التخزين والنقل والاستخدام الصناعي بكفاءة غير مسبوقة.
إلا أن هذا الابتكار لم يكن خاليًا من التحديات؛ فمع التوسع في تطبيق الهدرجة الجزئية، ظهرت الأحماض الدهنية المتحولة، وهي مركبات لم يكن الجسم البشري مهيأً للتعامل معها. ومع تراكم الأدلة العلمية التي ربطت هذه الدهون بزيادة مخاطر أمراض القلب والأوعية الدموية، تحولت الهدرجة الجزئية من تقنية صناعية شائعة إلى قضية صحة عامة عالمية، استدعت تدخلًا تشريعيًا ورقابيًا صارمًا من الهيئات الصحية الدولية والوطنية.
ينطلق هذا المقال في رحلة علمية مبسطة تتناول الهدرجة من أساسها الكيميائي وتطورها التاريخي، مرورًا بالمخاطر الصحية المؤكدة، وصولًا إلى الاستجابة التشريعية الدولية والمصرية، مع إبراز الدور المحوري للهيئات الرقابية والمعامل المعتمدة في حماية صحة المستهلك.
لفهم الهدرجة فهمًا صحيحًا، لا بد أولًا من تصحيح لبس شائع لدى كثير من غير المتخصصين. فالهدرجة، في جوهرها، عملية صناعية كيميائية محكمة يُقصد بها تحويل بعض الزيوت النباتية السائلة – مثل زيت فول الصويا أو زيت دوار الشمس – إلى صورة أكثر صلابة أو شبه صلبة، وذلك من خلال إضافة الهيدروجين إلى الروابط المزدوجة في الأحماض الدهنية، بهدف تحسين القوام وزيادة الثبات أثناء التخزين والاستخدام الصناعي.
ويشيع خطأً وصف معظم الزيوت النباتية بأنها «زيوت مهدرجة»، مع استثناء بعض الزيوت المعروفة مثل زيت الزيتون، دون إدراك أن الهدرجة والتكرير عمليتان مختلفتان تمامًا. فالتكرير هو سلسلة من العمليات الفيزيائية والكيميائية تهدف إلى تنقية الزيت من الشوائب، والمواد غير المرغوبة، والروائح، دون أن يعني ذلك بالضرورة تغيير حالته الفيزيائية أو تكوين دهون متحولة.
وتؤكد الجهات الدولية المرجعية، مثل منظمة الصحة العالمية (WHO) وإدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA)، أن الإشكالية الصحية لا تكمن في «نوع الزيت» بحد ذاته، بل في طريقة المعالجة الصناعية وحدودها التقنية، وبخاصة الهدرجة الجزئية، التي ترتبط بتكوّن الدهون المتحولة ذات التأثيرات السلبية المؤكدة على صحة الإنسان.

ما هي الهدرجة؟الهدرجة هي عملية كيميائية صناعية محكومة يتم فيها إضافة الهيدروجين إلى الروابط المزدوجة الموجودة في الأحماض الدهنية غير المشبعة بالزيوت النباتية، باستخدام عامل حفاز (غالبًا النيكل) وتحت ظروف محددة من الضغط والحرارة.
النتائج المحتملة:
التطور التاريخي بدأت الهدرجة علميًا مع أعمال بول ساباتيه، ثم تحولت إلى تطبيق صناعي واسع بعد براءة اختراع فيلهلم نورمان عام 1902. وخلال الحروب العالمية، أصبحت الدهون المهدرجة بديلاً استراتيجياً للدهون الحيوانية، مما أدى إلى انتشار السمن النباتي والدهون الصناعية في الصناعات الغذائية.
يوضح الجدول التالي الفروقات الأساسية بين نوعي الهدرجة:

➡️ الهدرجة الجزئية هي المصدر الصناعي الرئيسي للأحماض الدهنية المتحولة.
كيف تتكوّن؟خلال الهدرجة الجزئية، لا تُشبَع جميع الروابط المزدوجة، بل يتغير الشكل الهندسي لبعضها من الوضع الطبيعي المنحني (Cis) إلى الوضع المستقيم (Trans)، وهو تركيب غير مألوف للتمثيل الغذائي في جسم الإنسان.
المخاطر الصحية المؤكدةوفقًا لمنظمة الصحة العالمية:
➡️ جميع القوانين المصرية والدولية تستهدف الدهون المتحولة الصناعية فقط.
رغم أن الهدرجة الجزئية تظل المصدر الأساسي، إلا أن كميات ضئيلة جدًا من الدهون المتحولة قد تتكوّن نتيجة:
⚠️ هذه المصادر ثانوية وغير مؤثرة تشريعيًا، ولا تُقارن بخطورة الهدرجة الجزئية الصناعية.
بدأت رحلة مواجهة مخاطر الدهون المتحولة منذ السبعينات والثمانينات، حيث أشارت الدراسات الوبائية مثل فرامنجهام إلى ارتباطها بأمراض القلب التاجية. في التسعينات، أكدت دراسات كبيرة مثل Nurses’ Health Study أن الدهون المتحولة أسوأ من الدهون المشبعة، مما دفع إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) في 1999 إلى إلزام وضع محتوى الدهون المتحولة على البطاقة الغذائية اعتباراً من 2006.
مع بداية الألفية، بدأت دول رائدة مثل الدنمارك (2003) وسويسرا (2008) والنمسا (2009) وإيسلندا والنرويج بحظر الدهون المتحولة المنتجة صناعياً، وحددت الحد الأقصى عند 2% من الدهن في المنتج. في العقد الأخير، وسعت دول عدة مثل كندا (2017) والاتحاد الأوروبي (2021) والولايات المتحدة (2018) تشريعاتها للقضاء على الدهون المهدرجة جزئياً.
في 2018، أطلقت منظمة الصحة العالمية مبادرة REPLACE، لتقديم أدوات عملية تساعد الدول على سن وإنفاذ التشريعات.
التوافق العالمي والعربي مع أهداف منظمة الصحة العالمية لإلغاء الهدرجة الجزئية
على المستوى الدولي، أحرزت العديد من الدول تقدمًا ملموسًا في التوافق مع متطلبات منظمة الصحة العالمية (WHO) بشأن القضاء على الأحماض الدهنية المتحولة المنتجة صناعيًا عبر حظر أو تنظيم استخدامها في الأغذية، ووضع معايير صارمة لنسبها في المنتجات الغذائية. وفقًا لإحصاءات وتحديثات منظمة الصحة العالمية، أصبح لدى 53 دولة سياسات “أفضل الممارسات” المعتمِدة التي تهدف إلى خفض أو إلغاء الأحماض الدهنية المتحولة في الإمدادات الغذائية، ما يحمي صحة نحو 46% من سكان العالم من مخاطرها الصحية المعروفة، مقارنة بما كان عليه الوضع قبل خمس سنوات فقط.
وفي السياق العربي، برزت المملكة العربية السعودية كواحدة من أوائل الدول في المنطقة التي التزمت بتطبيق سياسات منسجمة مع توصيات المنظمة، وحصلت على شهادة الاعتراف من منظمة الصحة العالمية بخلو منتجاتها الغذائية من الدهون المتحولة المنتجة صناعيًا، بعد تنفيذ تشريعات تمنع استخدام الزيوت المهدرجة جزئيًا وتعزز نظم المراقبة والتحليل المختبري.
كما تحقق سلطنة عُمان إنجازًا مماثلًا، إذ تسلّمت شهادة من منظمة الصحة العالمية تعكس التزامها بخلو المنتجات الغذائية في السوق المحلية من الأحماض الدهنية المتحولة الصناعية، ما يجعلها ثاني دولة عربية تحقق هذا المستوى من التوافق مع أهداف المنظمة.
تمثل هذه الإنجازات العربية جزءًا من جهود أوسع لمواجهة الأحماض الدهنية المتحولة – وهي مركبات مرتبطة بزيادة مخاطر أمراض القلب والأوعية الدموية – عبر تبني سياسات تنظيمية وإجراءات تنفيذ فعّالة تحمي الصحة العامة وتستند إلى المعايير الدولية.
في إطار التوجه العالمي للقضاء على الأحماض الدهنية المتحولة المنتجة صناعيًا، اتخذت مصر مسارًا تشريعيًا وتنظيميًا واضحًا ومتدرجًا يتماشى مع توصيات منظمة الصحة العالمية (WHO)، وبخاصة مبادرة REPLACE التي أطلقتها المنظمة عام 2018 بهدف الإلغاء الكامل للدهون المتحولة الصناعية من السلسلة الغذائية.
وقد اضطلعت الهيئة القومية لسلامة الغذاء بالدور المركزي في هذا المسار، استنادًا إلى القانون رقم 1 لسنة 2017 بإنشاء الهيئة، والذي منحها الاختصاص الكامل في وضع القواعد الملزمة لسلامة الغذاء، والرقابة على الأغذية المتداولة محليًا أو المستوردة، وتقييم المخاطر الصحية المرتبطة بالمكونات الغذائية. وفي هذا الإطار، أصدرت الهيئة القرار رقم 19 لسنة 2022، الذي يُعد نقطة تحول مفصلية في ملف الدهون المتحولة في مصر، حيث نص صراحة على حظر استخدام الزيوت والدهون المهدرجة جزئيًا في المنتجات الغذائية، مع وضع حد أقصى مسموح به لمحتوى الأحماض الدهنية المتحولة في الأغذية النهائية، بما يتوافق مع الإطار المرجعي لمنظمة الصحة العالمية.
ويُستكمل هذا الدور التنظيمي من خلال التعاون الوثيق مع الهيئة المصرية العامة للمواصفات والجودة (EOS)، والتي تتولى إعداد وتحديث المواصفات القياسية المصرية الخاصة بالزيوت والدهون والمنتجات الغذائية، بحيث تتضمن تعريفات دقيقة للدهون المهدرجة، وحدودًا كمية واضحة للأحماض الدهنية المتحولة، ومتطلبات إلزامية للبطاقات الغذائية. وقد شمل ذلك مواءمة المواصفات الوطنية مع المعايير الدولية الصادرة عن Codex Alimentarius، والاتحاد الأوروبي، وتوصيات منظمة الصحة العالمية، بما يضمن توحيد المرجعية الفنية للصناعة والرقابة معًا.
كما أسهمت منظومة المعامل المعتمدة وفق ISO/IEC 17025 في دعم تطبيق هذه التشريعات، من خلال استخدام طرق تحليل معترف بها دوليًا (مثل GC-FID وفق AOAC وISO) لرصد محتوى الدهون المتحولة في المنتجات، سواء عند الإفراج الجمركي أو خلال الرقابة على الأسواق المحلية. هذا التكامل بين الإطار القانوني، والمواصفات القياسية، والقدرات التحليلية، أتاح لمصر الاقتراب بشكل فعلي من تحقيق متطلبات منظمة الصحة العالمية، ليس فقط على مستوى النصوص التشريعية، بل على مستوى التنفيذ والرقابة الفعلية.
ويعكس هذا المسار التزام الدولة بحماية صحة المستهلك، وخفض العبء الصحي والاقتصادي لأمراض القلب والأوعية الدموية، وفي الوقت ذاته دعم تنافسية الصناعة الغذائية المصرية ومواءمتها مع اشتراطات النفاذ إلى الأسواق العالمية التي تطبق سياسات صارمة بشأن الدهون المتحولة.
الأثر المتوقع
لا يكتمل أي تشريع دون:
لطالما كانت الدهون المهدرجة جزءًا أساسيًا من صناعة الأغذية بسبب ثباتها العالي وقدرتها على تحسين القوام والطعم. من أبرز المنتجات التي استخدمت الدهون المهدرجة سابقًا وحاليًا:
الضوابط المتحكمة في استخدامها حالياً
يخلط الكثيرون بين نوعين من السمن النباتي، والفرق بينهما شاسع، كما يوضح الجدول التالي:

الخلاصة: السمن النباتي الموجود حالياً في الأسواق (من الشركات الملتزمة) ليس هو "البعبع" القديم المهدرج، بل هو غالباً دهون نخيل طبيعية القوام.
كيفية قراءة البطاقة الغذائية
مصطلحات يجب تجنبها
البدائل التكنولوجية الآمنة للهدرجة الجزئية
جميعها تحقق القوام المطلوب دون تكوين دهون متحولة.
قصة الهدرجة درس في تفاعل العلم مع الصناعة والسياسة العامة. نجاح مسار حماية المستهلك يعتمد على شراكة حقيقية بين:
تكشف رحلة الهدرجة، كما عرضها هذا المقال، كيف يمكن لتقنية صناعية واحدة أن تكون في آنٍ واحد أداة للتقدم الغذائي ومصدرًا لمخاطر صحية جسيمة إذا أسيء استخدامها. فقد أثبت العلم بشكل قاطع أن الإشكالية لا تكمن في الزيوت ذاتها، بل في الهدرجة الجزئية وما ينتج عنها من أحماض دهنية متحولة، وهو ما دفع المجتمع الدولي، بقيادة منظمة الصحة العالمية، إلى تبنّي تشريعات صارمة لحماية صحة الإنسان.
وقد عكست التجارب العالمية والعربية، ولا سيما في السعودية وسلطنة عُمان ومصر، أن الإرادة التشريعية المدعومة بالرقابة العلمية قادرة على إحداث تحول حقيقي في جودة الغذاء، دون الإضرار بالصناعة أو الابتكار. وتمثل الخطوات المصرية، عبر دور الهيئة القومية لسلامة الغذاء وهيئة المواصفات والجودة، نموذجًا متقدمًا للتوافق مع المعايير الدولية وتحقيق التوازن بين سلامة المستهلك واستدامة الصناعة.
أما المستقبل، فيتجه بوضوح نحو صناعة دهون أكثر أمانًا وذكاءً، تعتمد على بدائل تكنولوجية مبتكرة، وزيوت طبيعية عالية الجودة، وحلول تحقق القوام والأداء الوظيفي دون المساس بالصحة العامة. وفي هذا المسار، تبقى الشراكة بين التشريع، والعلم، والصناعة، ووعي المستهلك هي الضمانة الحقيقية لغذاء صحي، ومنتجات مبتكرة، وإنسان أكثر أمانًا.
هذه الرؤية تضع المستهلك والصناعة في مسار صحي وآمن ومستدام، مع الحفاظ على جودة المنتجات ومرونتها في الاستخدام.
يعتمد هذا المقال على تقارير منظمة الصحة العالمية، إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، تشريعات الاتحاد الأوروبي، وقرارات الهيئة القومية لسلامة الغذاء المصرية، ويصلح كمرجع علمي وتطبيقي للعاملين في مجال الزيوت والدهون وسلامة الغذاء.