رئيس قسم الزيوت والدهون بمعهد بحوث الصناعات الغذائية والتغذية بالمركز القومي للبحوث.
Fractionation
إذا كنت تخطط لمنتج أقوى، أو تطمح لدخول أسواق أكثر تشددًا في معاييرها الصحية، فإن تقنية التجزئة لم تعد خيارًا ثانويًا، بل خطوة استراتيجية.
لم يعد الحديث عن الدهون المتحولة ترفًا علميًا، بل قضية صحية تمس كل بيت وكل خط إنتاج غذائي. ومع تشدد المعايير الدولية والاتجاه العالمي نحو غذاء أكثر أمانًا، برزت التجزئة كحل ذكي يعيد تشكيل عالم الزيوت، ويمنح الصناعات الغذائية بدائل طبيعية أكثر أمانًا وجودة، دون التضحية بالطعم أو الأداء.
بدأت تجارب تجزئة الزيوت نباتيًا على نطاق محدود في منتصف القرن العشرين، لكنها لم تتحول إلى أداة صناعية مؤثرة إلا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، مع تزايد الاعتماد على الزيوت الاستوائية لتلبية احتياجات الصناعات من زيوت أكثر ثباتًا وملاءمة للتصنيع. ومع تطور تقنيات التبريد والتحكم في التبلور خلال التسعينيات وبدايات الألفية الجديدة، صارت التجزئة ركيزة اقتصادية وتقنية؛ إذ أمكن إنتاج دهون مجزئة مخصصة لتطبيقات متنوعة مثل المخبوزات، القلي، والشوكولاتة، مع تعظيم الاستفادة من كل طن زيت واستهداف شرائح أوسع من السوق.
وتعتمد التجزئة على فصل المكونات الصلبة عن السائلة في الزيت عبر عملية فيزيائية بحتة، دون أي تغيير كيميائي في التركيب. هذه الآلية تتيح الحصول على زيوت أكثر استقرارًا وقوامًا مثاليًا للتصنيع، وخالية من الدهون المتحولة المرتبطة بمخاطر أمراض القلب واضطرابات الدهون. بهذه الصيغة، تحقق التجزئة معادلة دقيقة تجمع بين متطلبات الجودة الصناعية من جهة، والانضباط لمعايير الهيئات الصحية العالمية وتطلعات المستهلك الواعي من جهة أخرى.
اليوم، لم تعد التجزئة مجرد مرحلة تشغيلية داخل المصنع، بل أصبحت قرارًا استراتيجيًا لبناء منتجات صحية وتنافسية، متوافقة مع معايير السلامة والجودة، وقادرة على أن تحل محل الدهون المهدرجة كبديل طبيعي وآمن في مختلف التطبيقات الغذائية.
🔬 ما هي تقنية التجزئة؟ وكيف تعمل؟
التجزئة هي عملية فيزيائية بالكامل تعتمد على الفرق في نقاط انصهار الجليسريدات الثلاثية الموجودة في الزيت. وتقوم على ثلاث مراحل أساسية:
تبريد الزيت تدريجيًا للتحكم في نمو البلورات.
تبلور الدهون الصلبة (Stearin) التي تحتوي على نسب أعلى من الأحماض الدهنية المشبعة.
فصل البلورات عن الجزء السائل (Olein) باستخدام الترشيح أو أجهزة الطرد المركزي.
يُعد معدل التبريد أحد أهم العوامل المؤثرة؛ فالتبريد البطيء يُنتج بلورات أكبر وأكثر انتظامًا، مما يحسن كفاءة الفصل، بينما يؤدي التبريد السريع إلى بلورات صغيرة وضعيفة تقلل من جودة العملية. تختلف القيم الفنية الدقيقة — مثل معدلات التبريد وسرعة الطرد — حسب نوع الزيت والمعدات المستخدمة، لذا تُعد الأرقام عادة تقديرية وليست ثابتة.
📊 أنواع التجزئة المستخدمة في الصناعة
هناك ثلاث تقنيات رئيسية تختلف في الدقة والتكلفة:
1. التجزئة الجافة (Dry Fractionation)
بدون إستخدام أى مذيبات أو كيماويات
وهى الطريقة الأكثر استخدامًا صناعيًا.
تعتمد فقط على التبريد والترشيح دون مذيبات.
منخفضة التكلفة وصديقة للبيئة.
2. التجزئة بالمذيبات (Solvent Fractionation)
توفّر نقاءً أعلى للمكوّنات الدهنية المفصولة.
تستخدم في التطبيقات التي تتطلب دقة عالية مثل الشوكولاتة والحلويات الخاصة.
تتطلب احتياطات سلامة ومعدات أكثر تطورًا.
3. التجزئة بالمنظفات (Detergent Fractionation)
تُستخدم في التطبيقات البحثية والمتخصصة.
توفر فصلًا دقيقًا لكنه أقل انتشارًا صناعيًا.
⚖️ لماذا تعد التجزئة بديلاً أفضل من الهدرجة؟
الهدرجة الجزئية عملية كيميائية تغير تركيب الزيت وتنتج دهونًا متحولة ذات مخاطر صحية موثقة. أما التجزئة فهي عملية فيزيائية بحتة:
لا تُنتج دهونًا متحولة.
لا تغير التركيب الطبيعي للدهون.
توفر درجات صلابة مختلفة تناسب تطبيقات صناعية واسعة.
تمنح استقرارًا حراريًا جيدًا دون مضافات.
مقارنة مختصرة
🚀 التطور التقني الذي عزز مكانة التجزئة
شهدت السنوات الأخيرة تقدمًا كبيرًا في تقنيات التجزئة، شمل:
1. أنظمة تبريد متقدمة
تحكم أدق في المنحنى الحراري.
تحسين نمو البلورات وزيادة كفاءة الفصل.
2. معدات فصل عالية الأداء
مرشحات غشائية دقيقة.
أجهزة طرد مركزي توفر فصلًا سريعًا وكفاءة أعلى.
3. التجزئة متعددة المراحل
إنتاج عدة درجات من الإستيارين والأولين من نفس الزيت.
توفير منتجات مخصصة لأنواع محددة من الصناعات.
4. المراقبة الرقمية والتحكم الذكي
قياس اللزوجة والكثافة أثناء العملية.
تحسين الجودة وتقليل الفاقد باستخدام أنظمة تحكم ذكية.
💚 الفوائد الصحية والاقتصادية
الفوائد الصحية
استبعاد الدهون المتحولة من المنتجات الغذائية.
توفير دهون طبيعية أكثر استقرارًا للصناعات الموجهة للأطفال والبالغين.
تحسين جودة الدهون المستخدمة دون الحاجة لتغييرات كيميائية.
الفوائد الاقتصادية
الاستفادة المثلى من الزيوت الاستوائية ذات الإنتاج الوفير.
تحسين عمر تخزين المنتجات.
تقليل الاعتماد على الدهون الحيوانية أو المهدرجة.
إمكانية تخصيص الدهون المجزئة لتطبيقات مختلفة، مما يوسع مرونة الإنتاج.
⚠️ التحديات التقنية والقيود
التحديات:
الحاجة إلى استثمارات أولية مرتفعة في أنظمة التبريد والفصل.
استهلاك الطاقة نتيجة عمليات التبريد المتكررة.
عدم الوصول لنسبة فصل 100% داخل المصانع التجارية.
القيود:
تفضيل الزيوت الغنية بالدهون المشبعة لتحقيق نتائج أفضل.
الحاجة لمساحة تشغيلية كبيرة.
صعوبة تطبيق التجزئة على الزيوت منخفضة الصلابة.
🌴 أهم الزيوت القابلة للتجزئة
زيت النخيل: الأكثر استخدامًا عالميًا لأسباب تقنية واقتصادية.
زيت جوز الهند: يقدم كسورًا صلبة للمثلجات والمخبوزات الخاصة.
زبد الكاكاو: لإنتاج بدائل CBE/CBR عالية الجودة.
زيوت أخرى: مثل الشيا، وبعض الزيوت متوسطة السلسلة.
🏭 أهم التطبيقات الصناعية
السمن النباتي الخالي من الدهون المتحولة.
الشوكولاتة وبدائل زبد الكاكاو.
المخبوزات والفطائر وتحسين القوام.
زيوت القلي عالية الاستقرار.
منتجات الألبان النباتية مثل الآيس كريم والكريمات.
مزايا التجزئة مقارنة بالهدرجة الجزئية
1. من منظور صحي:
لا تنتج دهونًا متحولة، بخلاف الهدرجة الجزئية.
تحافظ على التركيب الطبيعي للدهون دون إدخال روابط أو تفاعلات كيميائية جديدة.
تساهم في خفض المخاطر المرتبطة بأمراض القلب واضطرابات الدهون في الدم عند استخدامها ضمن منظومة غذائية متوازنة.
2. من منظور تقني وتشغيلي:
تتيح الحصول على درجات مختلفة من الصلابة والثبات الحراري بما يناسب كل تطبيق صناعي (مخبوزات، قلي، شوكولاتة، سمن نباتي…).
تحسّن خصائص القوام والملمس دون الحاجة إلى إضافات صناعية معقدة.
تمكّن من إنتاج مكونات دهنية مخصّصة (fractions) تدعم تطوير منتجات جديدة ذات أداء وظيفي أعلى.
3. من منظور اقتصادي وتسويقي:
تعظّم الاستفادة من الزيوت الاستوائية والزيوت الطبيعية عبر فصلها إلى مكوّنات متعددة القيمة.
تساعد المصانع على الالتزام بالتشريعات الصحية الحديثة، ما يفتح المجال لدخول أسواق جديدة أكثر تشددًا في معاييرها.
تعزّز صورة العلامة التجارية عبر تقديم منتجات "خالية من الدهون المتحولة" ومواكِبة لتوجهات المستهلكين نحو الغذاء الصحي.
📌أهم التوصيات:
إعادة تقييم تركيبات المنتجات التي كانت تعتمد على الدهون المهدرج وإحلال الدهون الطبيعية والتى تنتج بالتجزئة.
الاستثمار في تقنيات التجزئة (تجهيزات التبريد، أنظمة التبلور، ووسائل الفصل) بما يتناسب مع حجم الإنتاج وخطط التوسع المستقبلية.
التعاون مع بيوت الخبرة والمورّدين التقنيين لتطوير تركيبات مخصّصة لكل خط إنتاج (مخبوزات، قلي، شوكولاتة…) تحقق التوازن بين الأداء والتكلفة والصحة.
التركيز على التوعية التسويقية بإبراز عبارة مثل: خالية من الدهون المتحولة ومعتمِدة على زيوت مجزّأة طبيعيًا في المواد التعريفية والملصقات، بما يعزّز ثقة المستهلك.
متابعة التطورات التشريعية الدولية والمحلية في ما يتعلق بالدهون المتحولة والوسوم الغذائية، لضمان توافق المنتجات مع المستجدات التنظيمية والفرص السوقية.
بهذا النهج، لا تصبح التجزئة مجرد تقنية تصنيع، بل أداة استراتيجية لبناء منتجات أكثر أمانًا وتنافسية، تواكب مستقبل صناعة الزيوت والدهون الغذائية.
الخلاصة
تُعد تكنولوجيا التجزئة نقلة نوعية في صناعة الزيوت والدهون الغذائية؛ إذ مكّنت المصانع من الاستغناء التدريجي عن الدهون المهدرجة واستبدالها ببدائل طبيعية أكثر استقرارًا وأعلى أمانًا على صحة المستهلك. ومع التقدم المستمر في تقنيات التحكم الحراري، والتبلور، وعمليات الفصل الذكي، أصبحت التجزئة اليوم إحدى الركائز الأساسية في تصميم وتركيب الزيوت المخصّصة للتطبيقات المختلفة، ومن المتوقع أن يتزايد الاعتماد عليها مع تصاعد الطلب العالمي على منتجات صحية ومتوافقة مع المعايير والتشريعات الدولية.