.png)

رئيس قسم الزيوت والدهون بمعهد بحوث الصناعات الغذائية والتغذية بالمركز القومي للبحوث.
لسنوات طويلة ارتبط السمن النباتي بالجدل وسوء الفهم، بين اتهامات صحية وتصورات ترسّخت في أذهان المستهلكين. لكن هل ما نعرفه اليوم هو نفس ما كان يُنتَج بالأمس؟
في هذا المقال نأخذك في رحلة علمية مبسطة، نكشف فيها كيف تطوّرت صناعة السمن النباتي من ممارسات تقليدية تجاوزها الزمن، إلى تقنيات حديثة أكثر أمانًا وانضباطًا، تعتمد على العلم والرقابة والمعايير الدولية.
بين الماضي والحاضر، نضع الحقائق في موضعها الصحيح… لتكتشف أين يقف السمن النباتي اليوم، بعيدًا عن الشائعات، وقريبًا من الفهم الواعي والاختيار المسؤول.
السمن النباتي مش كله واحد، ومش كل اللي اتقال عنه صح… ولا غلط. فيه فرق كبير بين السمن الصناعى المهدرج الذى كان ينتج قديما، والسمن النباتي اللي بيتصنع بطرق علمية وتكنولوجية آمنة. المقال ده بيشرح الحقيقة ببساطة من خلال خبرة أكاديمية وتطبيقية صناعية، من غير تخويف… ومن غير تلميع.
يمثل السمن النباتي (Vegetable Ghee / Vanaspati) أحد أهم منتجات الدهون المصنعة في العصر الحديث، وقد تطور من كونه مجرد بديل اقتصادي للسمن الحيواني إلى منظومة دهنية عالية التعقيد تخضع لضبط دقيق في تركيبها الكيميائي (Triglyceride Profile)، وبنيتها الطبيعية، وسلوكها الحراري والبلوري. وفي ظل التحديات العالمية المرتبطة بالأمن الغذائي، والنمو السكاني، وتزايد الطلب على منتجات خالية من الدهون المتحولة (Zero-Trans Fats)، أصبح السمن النباتي عنصرًا محوريًا في منظومة التصنيع الغذائي العالمية.
ويهدف هذا المقال إلى تقديم معالجة علمية متكاملة للسمن النباتي، تجمع بين الهندسة الدهنية، والتطبيق الصناعي، والتقييم التغذوي، والتثقيف الاستهلاكي، مع إبراز التطورات الحديثة والابتكارات التطبيقية في هذا المجال.
السمن النباتي هو نظام دهني أحادى الطور يتكون من شبكة بلورية صلبة تحتجز بداخلها الزيت السائل، وهو ما يمنحه خاصية اللدانة؛ أي الاحتفاظ بالشكل مع القابلية للتشكل والانسياب عند التعرض لإجهاد ميكانيكي.
ويُصنف إلى:
يتركز إنتاج واستهلاك السمن النباتي في:
ويرتبط ذلك بتوافر الزيوت الاستوائية، والاعتبارات الاقتصادية، والعادات الغذائية.
يعتمد السمن النباتي بالأساس على الزيوت الإستوائية وخصوصا زيت النخيل ويمكن أن يتم المزج الذكي بنسب مختلفة بين:
السمن الصناعي (الهدرجة الجزئية):في الماضي، استُخدمت عملية الهدرجة الجزئية لتثخين الزيوت السائلة وتحويلها إلى دهون صلبة، لكنها شكّلت مصدرًا رئيسيًا للدهون المتحولة. كانت هذه التقنية فعّالة لإنتاج دهون صلبة منخفضة التكلفة، لكنها أثبتت ارتباطها الصحي السلبي مع زيادة مخاطر الأمراض القلبية (علما بأن الهدرجة الجزئية تم منعها عالميا ومحليا إعتبارا من 2023).
الطريقة الحديثة لإنتاج السمن النباتي (التجزئة الطبيعية والاسترة الداخلية):تحولت الصناعة إلى تطبيق التجزئة الطبيعية بشكل أساسى وعلى نطاق تجارى واسع، وطريقة الأسترة المتبادلة كبدائل تقنية غير واسعة الإنتشار للسيطرة على الخواص الفيزيائية للدهون دون إنتاج دهون متحولة، مع تحسين التحكم في خصائص الانصهار واللدونة حسب التطبيق الغذائي.
تعتمد جودة السمن النباتي على التحكم في التعدد البلوري (Polymorphism)، إذ يُعد الطور β′ مفضلًا لما يمنحه من نعومة وقابلية للفرد، ويتم توجيهه عبر:
يُعرف السمن البلدي بمرحلة ترميلة طبيعية (تبريد بطيء طويل)، تسمح بإعادة ترتيب البلورات الدهنية وتحقيق قوام متجانس ومستقر. وتحاول الصناعة محاكاة هذا الأثر في السمن النباتي عبر برامج تبريد متدرج وتكييف حراري طويل لتحسين الاستقرار الحسي والبنية النهائية للمنتج.
تُهندس هذه الدهون خصيصاً لتلائم تطبيقات صناعية دقيقة، من خلال التحكم الدقيق في سلوكها عبر تصميم منحنى محتوى الدهون الصلبة (SFC Curve). تشمل تطبيقاتها الرئيسية:
وهكذا تتحول الدهون من مكون أساسي إلى أداة تكنولوجية تتيح التحكم في قوام المنتج وثباته وجودته النهائية.
تتطلب التطبيقات التكنولوجية فى مجال الصناعات الغذائية الحديثة دهونًا ذات نقاط انصهار مختلفة لضمان:
وهذا لا يمكن تحقيقه إلا عبر هندسة الدهون المتقدمة وليس عبر الدهون التقليدية وحدها.
تتطلب الصناعات الغذائية الحديثة دهونًا ذكية تختلف صلابتها حسب درجة الحرارة. يتم هندستها خصيصًا لتحقيق ثلاث وظائف رئيسية:
هذا المستوى من الدقة لا يمكن تحقيقه باستخدام الدهون العادية، بل يتطلب هندسة متخصصة لتصميم الدهن المناسب لكل منتج.
يكمن سبب استخدام زيت النخيل على نطاق واسع في صناعة السمن النباتي في مزاياه الفريدة التي تجمع بين الجانب الاقتصادي والوفرة والاستجابة لمتطلبات العصر، وذلك على النحو التالي:

يُظهر الجدول فلسفتين متكاملتين:
الخلاصة: لا يوجد دهن مثالي، فالاختيار يعتمد على الهدف (طعم/صحة/صناعة) مع ضرورة الاعتدال في الاستهلاك الكلي للدهون.
لتحقيق تقارب حسي مع السمن الحيواني، تُضاف مكسبات نكهة مثل:
بجرعات محسوبة وآمنة. كما تُستخدم مضادات أكسدة طبيعية (توكوفيرولات، مستخلصات نباتية) أو صناعية مسموح بها BHA، BHT، TBHQ للحفاظ على الجودة والاستقرار.
لا تُبنى الصحة على نوع الدهن وحده، بل على استراتيجية استهلاك متكاملة تجمع بين:
هذه الركائز الثلاث تحول المعرفة التغذوية إلى ممارسة يومية حقيقية.
تتضمن التطورات الحديثة:
وقد توسّع العلم الحديث ليشمل أيضًا علاقة الليبيدات بالصحة والأمراض، وتحليل تركيب ثلاثي الجليسريدات، وتحسين زراعة المحاصيل الدهنية لتحسين خصائصها الأولية، مما يعكس أبعادًا أوسع لتكنولوجيا الدهون تشمل الصحة، الغذاء، والبيئة.
يُنتَج السمن النباتي الحديث بطرق آمنة تعتمد أساسًا على زيت النخيل، سواء باستخدامه منفردًا أو بعد تدعيمه بجزء طبيعي منه يُسمّى الإستيارين، وهو الجزء الصلب الذي يتم فصله بالتحكم الدقيق في التبريد.
تبدأ العملية بتسخين الزيت لإذابته وتنقيته، ثم تبريده تدريجيًا عند درجات حرارة محسوبة. وبعد ذلك تُعاد مزج نسب مدروسة من الزيت والإستيارين للحصول على القوام المتماسك المعروف للسمن، دون إحداث أي تغيير كيميائي في تركيب الدهون. وتعتمد هذه الطريقة على المعالجة الحرارية والتحكم في التبريد فقط، دون اللجوء إلى الهدرجة الجزئية أو تكوين دهون متحولة، وهو ما يجعل السمن الناتج أكثر توافقًا مع المعايير الصحية الحديثة عند الالتزام بالضوابط التصنيعية.
وفي المراحل النهائية من التصنيع، قد تُضاف مكسبات طعم ورائحة مصرح بها غذائيًا—سواء كانت طبيعية أو مطابقة للطبيعة—وبكميات محدودة، بهدف تحسين القبول الحسي للمنتج دون المساس بسلامته أو جودته. ويُختتم التصنيع بعمليات خلط وتبريد نهائي للحصول على منتج متجانس، مستقر، ومناسب لمختلف الاستخدامات الغذائية.
يُجسد الابتكار في تكنولوجيا الدهون الغذائية القوة التحويلية للتعاون بين البحث العلمي والتطبيق الصناعي، حيث يحقق أبحاثًا تطبيقية تُحدث تأثيرًا حقيقيًا في السوق والصحة العامة.
ويبرز هذا النموذج بوضوح في الإنجاز البحثي الذي قاده أ.د. عادل جبر بالتعاون مع فريق علمي متكامل من المركز القومي للبحوث، وجامعة الإسكندرية، ومدينة الأبحاث العلمية ببرج العرب، والذي حصل على المركز الأول في جائزة أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا المصرية - بنك الابتكار المصري (EIB):
عن ابتكارين:
ويُعد هذا الإنجاز نموذجًا مثاليًا لـ:
هذا النجاح يؤكد أن الابتكار الحقيقي يتحقق عندما تلتقي الخبرة العلمية المتخصصة مع الرؤية التطبيقية، مما يخلق قيمة مضافة للصناعة والصحة العامة معًا.
وتُعد هذه الابتكارات دعوة ملحة لرجال الصناعة للاستثمار في تطبيقها، حيث تشكل شراكاتكم مع الباحثين والمبتكرين نقلة استراتيجية تحقق ثلاثية الفوز: رفع القيمة الصحية للمستهلك، وتعزيز كفاءة الإنتاج، وبناء ميزة تنافسية راسخة للمنتج الوطني في السوقين المحلي والعالمي.

يُعيد هذا العرض وضع السمن النباتي في سياقه العلمي والتنظيمي الحديث، مؤكدًا أن الإشكالية التاريخية ارتبطت بأساليب تصنيع قديمة، وعلى رأسها الهدرجة الجزئية، التي ثبتت مخاطرها الصحية، وأصبحت محظورة ومُجرَّمة وفقًا لتوصيات هيئة الدستور الغذائي (Codex Alimentarius)، وتوجهات منظمة الصحة العالمية، وما تبع ذلك من تشريعات ورقابة صارمة من الجهات الوطنية المختصة مثل هيئة المواصفات والجودة وهيئة سلامة الغذاء.
في المقابل، تطورت الصناعة الحديثة نحو بدائل طبيعية وآمنة لإنتاج السمن النباتي، تعتمد على تقنيات مثل التجزئة، والأسترة الإنزيمية، وأنظمة الأوليوجيل، دون تكوين أحماض دهنية متحولة، مع الحفاظ على الخصائص الوظيفية والحسية المطلوبة.
وعليه، أصبح السمن النباتي في صورته المعاصرة منتجًا مُنظمًا علميًا وتشريعيًا، تتحدد جودته وقيمته الصحية من خلال أسلوب التصنيع، والالتزام بالمعايير الدولية، ووعي المستهلك، بما يحقق توازنًا واقعيًا بين الصحة، الجودة، والاستدامة الغذائية.