.png)

رئيس قسم الزيوت والدهون بمعهد بحوث الصناعات الغذائية والتغذية بالمركز القومي للبحوث.
هل أنت متأكد أن الزيت الذي تبيعه أو تشتريه نقي… أم أن المظهر خادع؟
في سوقٍ مليء بالغش والخلط والتلاعب بالجودة، لم يعد اللون أو الرائحة أو حتى السعر كافياً للحكم على أصالة الزيت. هنا يأتي تحليل الأحماض الدهنية بالكروماتوجرافيا الغازية (GC) كأداة علمية حاسمة؛ يكشف الغش، يثبت النقاء، ويوثّق مصداقية المنتج أمام العملاء والمورّدين.
سواء كنت تاجرًا، مستوردًا، مصنعًا أو مشتريًا حريصًا… فهذا التحليل هو ضمانك الحقيقي قبل إبرام أي صفقة. لا تعتمد على الانطباع… اعتمد على التحليل.
تُعد الزيوت والدهون الغذائية مكونات أساسية لا غنى عنها في غذائنا اليومي؛ فهي ليست مجرد مصدر مركز للطاقة، بل تسهم في امتصاص الفيتامينات الذائبة في الدهون، وتكوين الهرمونات، والحفاظ على سلامة غشاء الخلية ووظائفها الحيوية. ومع هذا التنوع الكبير في مصادر الزيوت (نباتية وحيوانية)، وتأثر تركيبها بالظروف الزراعية والمناخية وعمليات التصنيع والتخزين، برزت الحاجة إلى أدوات تحليلية دقيقة تضمن جودتها ونقاوتها وتكشف أي تلاعب أو غش قد يعرّض المستهلك للخطر.
ومن بين هذه الأدوات، تتصدر الكروماتوجرافيا الغازية مكانة مميزة؛ فقد أصبحت بحق حجر الزاوية في عالم تحليل الدهون، لأنها تتيح لنا رؤية "البصمة الدهنية" لكل زيت بدقة عالية، وفهم تركيبه الحقيقي بعيدًا عن أي مؤثرات شكلية أو تسويقية، مما يجعلها الجسر بين العلم والمصداقية والجودة في منتجات الزيوت والدهون.
الأحماض الدهنية هي مركبات عضوية تتكون من سلسلة هيدروكربونية تنتهي بمجموعة كربوكسيلية (–COOH)، وتُعد المكوّن الأساسي للدهون والزيوت.
يوضح الإنفوجرافيك التالي تصنيف الأحماض الدهنية بناءً على طول السلسلة الكربونية:

الكروماتوجرافيا الغازية هي تقنية فصل فيزيائية تعتمد على تطاير مكونات العينة وتحويلها إلى طور غازي، ثم نقلها بواسطة غاز حامل خامل (كالهيليوم أو الهيدروجين) عبر عمود فصل دقيق وطويل. يتم طلاء العمود من الداخل بمادة محددة تسمى الطور الثابت. تتفاعل كل مادة في العينة مع هذا الطور الثابت بقوة مختلفة، مما يؤدي إلى إبطاء مرورها بدرجات متفاوتة، وبالتالي فصلها بناءً على نقطة غليانها وقطبيتها، لتخرج واحدة تلو الأخرى في أزمنة احتباس مميزة.
تتميز الأحماض الدهنية بأنها مركبات شبه متطايرة، مما يجعلها مرشحة مثالية للتحليل بالـ GC. تظهر كل منها على الجهاز كـ "قمة" على رسم بياني يسمى الكروماتوغرام. يتم تحديد هوية الحمض الدهني من خلال زمن احتباسه المماثل للمعايير المرجعية، ويتم حساب تركيزه النسبي من خلال قياس مساحة قمته، لتعطينا في النهاية بصمة رقمية دقيقة للتركيب الكامل.
يواجه المحلل تحدياً رئيسياً: فالأحماض الدهنية الحرة، وخاصة طويلة السلسلة (كحمض الشمع C20:0)، ذات درجة غليان عالية ولزوجة كبيرة، مما يجعل فصلها المباشر بالـ GC غير كفء، ويؤدي إلى قمم عريضة ومنتشرة يصعب قياسها.
هنا تأتي الخطوة الحاسمة التي تسبق التحليل: عملية الميثلة. وهي تفاعل كيميائي يحول الأحماض الدهنية (سواء كانت حرة أو مرتبطة بالجليسيرول في شكل دهون ثلاثية) إلى إسترات ميثيلية للأحماض الدهنية (FAMEs).
باختصار: الميثلة هي "لغة الترجمة" التي تحول لغة الأحماض الدهنية المعقدة إلى لغة بسيطة ودقيقة تفهمها أجهزة الكروماتوجرافيا الغازية ببراعة.
يمثل ملف الأحماض الدهنية لكل زيت "هوية جزيئية" أو بصمة كيميائية مميزة. الرسم البياني التالي يوضح الفروقات الجوهرية في التركيب لبعض الزيوت الشائعة:

أي انحراف عن النمط المتوقع لهذه البصمة يكون بمثابة جرس إنذار:
ليس هناك تركيب ثابت لزيت نباتي. فـ "بصمته" الكيميائية تتأثر بـ:
لذا، فإن معايير ضيقة جداً قد تظلم منتجاً طبيعياً نقياً لمجرد أنه نما في بيئة مختلفة.
هنا يبرز الدور المحوري لهيئة الدستور الغذائي (Codex Alimentarius) التابعة للأمم المتحدة (FAO/WHO). تقوم الهيئة بنشر جداول مرجعية معتمدة دولياً (مثل تلك في المعيار CXS 210-1999) تحدد نطاقات مقبولة (Ranges) لتركيب الأحماض الدهنية لكل زيت، بناءً على آلاف العينات من حول العالم.
لا يقتصر الأمر على GC التقليدية. فاليوم، يستخدم مطياف الكتلة كمكتشف (GC-MS) لتأكيد هوية القمم المجهولة بدقة مطلقة. كما يتم استخدام أعمدة فصل عالية الدقة (مثل CP-Sil 88) لفصل المتشابهات المكانية (cis/trans) للأحماض الدهنية غير المشبعة، وهو أمر بالغ الأهمية في التقييم الصحي. كما تتم أتمتة عملية الميثلة والتحليل لزيادة الإنتاجية والدقة.
يظل الفصل الكامل لبعض المخاليط المعقدة (مثل جميع أحماض أوميغا-3 في زيت السمك) تحدياً تقنياً يتطلب تحسين برامج الفصل واختيار الأعمدة المناسبة. كما أن تحليل الأحماض الدهنية الحرة فقط لا يكشف عن بعض أنواع الغش المتطورة، مما يستدعي تقنيات مكملة مثل كروماتوجرافيا السائل عالي الأداء (HPLC) لتحليل الدهون الثلاثية.
يُعد التحقق من دقة فصل وقياس الأحماض الدهنية خطوة حاسمة لضمان موثوقية النتائج. ويتم تقييم أداء طريقة الكروماتوجرافيا الغازية مع كاشف التأين اللهبي (GC-FID) من خلال معيارين رئيسيين:
تقيس قدرة النظام على فصل قمتين متجاورتين (مثل C18:0 وC18:1). ويعتبر قيمة Resolution تساوي 1.5 أو أكثر مؤشراً على فصل كامل ومقبول، بينما تشير القيم الأقل من 1.0 إلى تداخل غير مقبول. تتأثر هذه القيمة بكفاءة العمود وبرنامج الدرجة الحرارية.
وتقاس بمدى اقتراب النتيجة من القيمة الحقيقية، من خلال:
هي فحوص روتينية قبل التحليل تضمن جاهزية الجهاز والطريقة، وأهمها:
يضمن تطبيق هذه المعايير الشاملة أن النتائج المُتحصل عليها دقيقة وموثوقة وقابلة للاعتماد في تقييم نقاوة الزيوت والكشف عن أي تغيرات أو غش.
تحليل الأحماض الدهنية بالكروماتوجرافيا الغازية ليس مجرد خطوة روتينية في المختبر، بل هو خط دفاع علمي متقدم لحماية صحة المستهلك وصون نزاهة الأسواق. إنها التقنية التي تُحوِّل ما يجري في عالم الجزيئات إلى أرقام وبيانات واضحة يمكن الاعتماد عليها في اتخاذ القرار؛ قرار البيع والشراء، وقرار القبول أو الرفض، وقرار الثقة أو الشك في أي منتج زيتي يُطرح في السوق.
ومع ذلك، فإن قوة هذه البيانات لا تكتمل إلا عندما تُقرأ وتُفسَّر بوعي وحكمة، في إطارٍ علمي وتشريعي مرن وعادل، يراعي التنوع الطبيعي في تركيب الزيوت بين منطقة وأخرى، وبين موسم وآخر، دون ظلم لمنتج صادق أو تساهل مع منتج مغشوش. وهنا يأتي دور المعايير والمواصفات الدولية، وعلى رأسها ما تصدره هيئة الدستور الغذائي (Codex Alimentarius)، لتشكّل مرجعية موثوقة تضمن توحيد لغة التقييم والفحص على مستوى العالم.
وفي قلب هذه المنظومة يقف الخبير بالتحاليل المعملية بوصفه العنصر البشري الحاسم؛ فنجاح التحليل لا يعتمد على دقة الأجهزة فقط، بل يحتاج إلى عين خبيرة تعرف طبيعة الزيت، ومصدره، وظروف إنتاجه وتخزينه، وتستطيع أن تربط بين النتائج الرقمية وسياقها الواقعي. إن فهم الخبير للفروق بين الزيوت البكر والمكررة، والزيوت التقليدية والمحسّنة، والزيوت المحلية والمستوردة، هو ما يحوّل الكروماتوغرام من مجرد منحنى إلى قصة متكاملة عن أصل الزيت وتاريخه وجودته.
وهكذا، يغدو تحليل الأحماض الدهنية بالكروماتوجرافيا الغازية أكثر من كونه تقنية مخبرية؛ إنه جسر يربط بين دقة المختبر وعدالة التشريع، وبين خبرة المحلل وواقع السوق، وبين شفافية المعلومة وأمان المستهلك، ليكون في النهاية أداة حقيقية لبناء ثقة مستدامة في غذائنا وما يُقدَّم على موائدنا كل يوم.