.png)

رئيس قسم الزيوت والدهون بمعهد بحوث الصناعات الغذائية والتغذية بالمركز القومي للبحوث.
هل تصدّق أن أكثر ما نسمعه عن الكوليسترول… أقرب إلى الأسطورة منه إلى العلم؟
فبين من يخشاه كأنه «قنبلة صحية»، ومن يظنه مجرد رقم مزعج في التحاليل، ضاعت الحقيقة وسط الضجيج. فالواقع أن هذا المتهم الدائم هو في الأصل جندي مجهول لا تقوم خلاياك بدونه، وركن أساسي في بناء الهرمونات وفيتامين D والعصارة الصفراوية. نعم… الكوليسترول مفيد قبل أن يكون خطيراً، وضروري قبل أن يكون متهماً.
لكن الخلل يبدأ عندما يختل التوازن الدقيق بين أنواعه، فتتحول مهمته النبيلة إلى عبء يهدد الشرايين. وفي هذا المقال، نكشف لك الصورة الكاملة: كيف يعمل؟ لماذا نحتاجه؟ ومتى يصبح عدواً خفياً؟ إنها رحلة لفهم الحقيقة المخفية خلف كمٍّ هائل من المعلومات المشوشة… رحلة تعيد تعريف علاقتك بالكوليسترول من جديد.
في عالم الصحة، قلّما نجد مادة تحمل هذا القدر من التناقض مثل الكوليسترول. فهو في آنٍ واحد بطلٌ شجاع لولا وجوده لما استطاعت خلايانا أن تعيش، وهو أيضاً متهم رئيسي في جرائم انسداد الشرايين. وبين الصديق والعدو مسافة لا يُحددها إلا أسلوب حياتنا وخياراتنا اليومية.
رغم أن الكوليسترول يبدو وكأنه زائر يأتي مع الطعام، فإن الحقيقة أن جسمك هو المصنع الأكبر لهذه المادة الحيوية؛ إذ ينتج الكبد وحده نحو 80% من إجمالي كوليسترول الدم، وتشارك الأمعاء والغدد الكظرية والجلد في تصنيع بقية النسبة بكميات أصغر.
أما الـ 20% المتبقية فتأتي من الغذاء، خصوصاً من المصادر الحيوانية مثل اللحوم الحمراء، الدواجن، البيض، والألبان كاملة الدسم. المدهش أن هذا المصدر الخارجي يكون تأثيره محدوداً عند كثير من الناس، لأن الكبد يمتلك آلية ذكية للتغذية الراجعة؛ فكلما زادت كمية الكوليسترول القادمة مع الطعام، خفّض إنتاجه الداخلي للحفاظ على التوازن.
لكن هذه المنظومة الدقيقة قد تختل لدى بعض الأشخاص بسبب الاستعداد الوراثي أو الإفراط في الدهون المشبعة والسكريات، فيفشل الجسم في ضبط الإنتاج، وترتفع مستويات الكوليسترول إلى حد يتحول فيه هذا الصديق الضروري إلى عدو يهدد الشرايين والقلب.
داخل جسدك، يعمل الكوليسترول كمهندس مقيم ومسؤول صيانة لا يهدأ:
وحتى عندما تتناول وجبة دسمة، فإن هذا "الموظف النشيط" يشارك في تصنيع العصارة الصفراوية لهضم الدهون. ومع ذلك… فإن هذا الصديق المخلص قد ينقلب خصماً خطيراً إن تجاهلنا قواعد التعامل معه.
يُصنّف الكوليسترول إلى نوعين رئيسيين:
وهذا يفسر لماذا قد يلتزم شخص بنظام غذائي صارم بينما تظل نسب الكوليسترول مرتفعة في تحاليل الدم.
تخيّل الكوليسترول الضار (LDL) كـ "دليفرى" أو "شاحنة نقل" محترفة تنطلق من الكبد لتوصيل الشحنات إلى خلاياك. تقوم بمهمتها بدقة، لكن زيادة عدد الشاحنات أو خلل في نقاط الاستلام يجعل الحمولة تتراكم في الطرق — أي الشرايين.
ومع مرور الوقت، تبدأ هذه الشحنات بالتكدس على الجدران الداخلية، فتضيق الممرات شيئاً فشيئاً، لتصبح الرحلة نحو القلب أو الدماغ محفوفة بالمخاطر.
تُشبِه مستقبلات LDL "بوابات استقبال ذكية" تنتشر على جدران خلايا جسمك، تعمل كموظفي استقبال محترفين مهمتهم التعرف على "ساعي البريد" (LDL) وتمرير شحنات الكوليسترول الحيوية إلى داخل الخلية في الوقت المناسب وبالكمية المطلوبة.
هذه البوابات لا تقتصر وظيفتها على الاستقبال فقط، بل تعمل أيضاً كـ "منظم مرور" يحافظ على انسياب حركة الكوليسترول في مجرى الدم. فكلما كانت هذه المستقبلات نشيطة وكثيرة العدد، التقطت معظم شحنات الكوليسترول المتجهة إلى الخلايا، وبقيت "طرق المواصلات" – أي الشرايين – أكثر نظافة وأمناً.
أما حين يتعرض هذا النظام لخلل، سواء بسبب عوامل وراثية أو نتيجة ضغط مستمر من الدهون المشبعة ونمط غذائي غير صحي، فإن عدد المستقبلات أو كفاءتها يبدأ في التراجع. عندها تتكدس "الرسائل غير المستلمة" في مجرى الدم، لتتحول إلى ترسبات على جدران الشرايين، فتزداد احتمالات حدوث "زحام مروري" قد ينتهي بانسداد خطير.
من هنا تصبح هذه المستقبلات مفتاحاً أساسياً لفهم لغز الكوليسترول؛ فهي الجسر الآمن الذي يعبر عليه الكوليسترول لينجز مهامه داخل الخلايا، فإذا تهدم الجسر أو ضاق، تحوّل الصديق الضروري إلى عدو متربص يهدد صحة القلب والشرايين.
وعلى الجانب الآخر، يظهر الكوليسترول الجيد (HDL) كفريق إنقاذ محترف؛ يجوب مجرى الدم ليلتقط الفائض من الكوليسترول ويعيده إلى الكبد للتخلص منه. وكلما كان هذا الفريق أقوى وأكثر عدداً، كان قلبك أكثر أمناً، وشرايينك أكثر نقاءً.
لا يكتمل المشهد دون الحديث عن "رفاق السوء" الذين يرافقون الكوليسترول في رحلة الخطر. إنهم الضيوف غير المرغوب فيهم:
ووجود هذه العناصر معاً يشبه اجتماع شرارة مع وقود جاف… الانفجار الصحي يصبح أقرب مما نظن.
تضع العديد من عبوات الزيوت والسمن عبارة "خالٍ من الكوليسترول"، وهذا الادعاء صحيح تقنياً لأن الكوليسترول يوجد فقط في المنتجات الحيوانية وليس في الزيوت النباتية أصلاً.
ووفق هيئة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA)، يُسمح بهذا الشعار إذا كان المنتج يحتوي على أقل من 2 ملجم من الكوليسترول في الحصة، وأقل من 2 جرام من الأحماض الدهنية المشبعة، لضمان ألا يُستخدم الادعاء لخداع المستهلك بأن المنتج "صحي" بينما قد يرفع الكوليسترول الضار بطرق أخرى. ولذلك، فإن عبارة "خالٍ من الكوليسترول" لا تكفي للحكم على سلامة المنتج للقلب ما لم تكن الدهون المشبعة والمتحولة منخفضة بالفعل.
التوازن هو كلمة السر في قصة الكوليسترول، ولتحقيق هذا التوازن يحتاج كل شخص إلى معرفة حدوده الخاصة:
الفحص الدوري كل 6 أشهر ليس رفاهية، بل وسيلة مبكرة لتفادي أمراض قد تتطور دون أي أعراض.
ليس الهدف القضاء على الكوليسترول، بل تعليمه قواعد الضيافة الصحية داخل جسدك. إليك خريطة طريق عملية ومتوازنة:
الكوليسترول ليس عدواً بالفطرة ولا صديقاً بلا شروط. إنه عنصر حيوي قد يتحول إلى خطر إذا أهملت توازنه. الصديق الحقيقي هو من تحسن معاملته؛ والكوليسترول صديقٌ يحتاج إلى إدارة حكيمة، لا إلى خوف أو مبالغة. تعلّم لغته… افهم رسائله… واحرص على إبقائه صديقاً لا خصماً. فصحتك أثمن من أن تخضع للصدف أو العشوائية، وهي تبدأ بخطوة وعي واحدة… منك أنت.
"رحلة التوازن مع الكوليسترول ليست سباقاً سريعاً، بل رحلة استكشاف يومية لجسدك. كل خيار صحي تقوم به هو رسالة تقدير لقلبك وشرايينك. لا تنتظر الحافز المثالي... ابدأ من حيث أنت، وبما تستطيع، وستجد أن التغيير الحقيقي يبدأ بخطوة واحدة، تليها أخرى، حتى تصبح العادات الصحية جزءاً لا يتجزأ من حياتك."
"تذكر أن كل خطوة صغيرة تُحدث فرقاً كبيراً... بداية من حفنة مكسرات تضيفها لوجبتك، إلى دقائق مشي تزيدها يومياً."
"لا تحتاج لتغيير حياتك بين ليلة وضحاها... الأهم هو الاستمرارية. حتى لو بدأت بـ 10% من التغييرات ووصلت لـ 50% فقط، فأنت على الطريق الصحيح وتحقق نتائج مُرضية."