التوقيت الأمثل لجمع الزيتون وجودة الزيت

تاريخ النشر:
November 4, 2025
أخر تعديل:
November 4, 2025

رئيس قسم الزيوت والدهون بمعهد بحوث الصناعات الغذائية والتغذية بالمركز القومي للبحوث.

هل يمكن لِـ”يوم واحد“ أن يُغيّر مصير محصول عامٍ كامل؟

إنه ليس مجرد سؤال بل تحدٍّ علمي يعيش في ذهن كل مزارعٍ وخبير زيتون. ففي عالم الزيتون، الفارق بين زيت استثنائي وآخر عادي قد لا يتجاوز بضع ساعات في توقيت الحصاد.

اختيار اليوم الخطأ يعني خسارة النكهة، والمركبات الحيوية، والقيمة السوقية معًا. أما اختيار اللحظة الصحيحة، فهو سرّ ولادة “الذهب السائل” في أنقى وأغلى صوره.

الحقيقة أن كل ثمرة زيتون تحمل في داخلها معادلة دقيقة بين العلم والفن، بين النضج الفسيولوجي والعائد الاقتصادي.

هذا المقال يأخذك في رحلة داخل الثمرة نفسها — من لحظة تكوُّن الدهون (Lipogenesis) وحتى اللحظة السحرية التي تُحصد فيها — لتكتشف متى وكيف يتحول الزيت من مجرد منتج زراعي إلى تجربة علمية واقتصادية متكاملة.

يُعد توقيت حصاد ثمار الزيتون من العوامل الحاسمة في تحديد جودة زيت الزيتون وتركيبته الكيميائية والحسية. يعتمد تحديد التوقيت الأمثل على فهم العمليات الفسيولوجية داخل الثمرة، ولا سيما عملية تكوُّن الدهون (Lipogenesis)، والتغيرات المصاحبة في اللون، والمحتوى الرطوبي، وتوازن المركبات النشطة حيويًا. تهدف هذه الورقة إلى توضيح الإطار العلمي لتحديد "النافذة المثلى للحصاد" التي تحقق أعلى جودة ممكنة دون التضحية بالعائد الاقتصادي.

🤔 هل لحظة الحصاد مجرد قرار زمني؟


إن تحديد موعد جني الزيتون ليس قرارًا تقليديًا، بل هو علم وفن يجمع بين الفهم الفسيولوجي العميق لثمرة الزيتون وبين إدارة اقتصادية دقيقة للمزرعة. فالمنتج الواعي لا يركز فقط على كمية الزيت، بل يبحث عن اللحظة الذهبية التي تتوازن فيها الجودة الحسية والكمية الاقتصادية.

🌿 ما الذي يحدث داخل ثمرة الزيتون قبل الحصاد؟


عملية تكوُّن الدهون (Lipogenesis)


تبدأ عملية تكوُّن الدهون عادة من منتصف أغسطس وتستمر حتى أوائل أكتوبر لمدة تتراوح بين 6 و10 أسابيع. في هذه المرحلة تتحول السكريات الناتجة عن البناء الضوئي إلى أحماض دهنية رئيسية مثل حمض الأوليك والبالمتيك واللينوليك، وتُخزن داخل خلايا اللب في صورة دهون ثلاثية (Triglycerides).

ترافق هذه العملية مجموعة من التغيرات المميزة:

زيادة تدريجية في محتوى الزيت حتى بلوغ الذروة.

تغير اللون (Véraison) من الأخضر الداكن إلى الأخضر الفاتح ثم البنفسجي نتيجة تحلل الكلوروفيل وتراكم الأنثوسيانين.

انخفاض محتوى الرطوبة وزيادة المادة الجافة.

تطور التركيب الكيميائي، حيث تتكون مركبات البوليفينولات المسؤولة عن النكهة والخصائص المضادة للأكسدة، بينما يبدأ الكلوروفيل بالتحلل تدريجيًا.

⚖️ لماذا يختلف موعد الحصاد بين المزارعين والمنتجين؟


الصراع بين الجودة والكمية


تشير الدراسات الحديثة الصادرة عن المجلس الدولي للزيتون (IOC) ومجلة الجمعية الأمريكية لكيميائيي الزيوت (Journal of the American Oil Chemists’ Society) إلى أن ذروة الجودة لا تتزامن مع ذروة الكمية.

الحصاد المبكر (مؤشر النضج 0–2):

الجودة: مرتفعة للغاية، الزيت يتميز بلون أخضر قوي ونكهات فواكهية مرّة وحادة نتيجة ارتفاع محتوى البوليفينولات ومضادات الأكسدة (مثل الأوليوروبين).

الكمية: منخفضة لأن عملية تكوُّن الدهون لم تكتمل، والثمار متماسكة بالأغصان مما يزيد صعوبة الجني وتكلفته.

الحصاد المتأخر (مؤشر النضج 4–5):

الجودة: أقل نسبيًا، بسبب انخفاض مضادات الأكسدة وتحلل البوليفينولات، وتحوّل اللون إلى الذهبي والنكهة إلى ملساء أقل حدة.

الكمية: مرتفعة نتيجة اكتمال تكوُّن الدهون، لكن على حساب الصفات الحسية والاستقرار التأكسدي.

🎯 متى تكون الفترة المثلى لجمع الزيتون؟


منطقة التوازن الذهبي

تُظهر دراسات جامعة كاليفورنيا – ديفيس (UC Davis Olive Center) ومركز البحوث الزراعية الإسباني (IFAPA) أن أفضل توقيت للحصاد هو عندما:

يصل محتوى الزيت إلى 80–90٪ من أقصى إنتاجه الممكن.

يكون مؤشر النضج (Ripeness Index) بين 2.5 و3.5، أي مزيج من الثمار الخضراء وتلك التي بدأت بالتحول البنفسجي.

تظل نسبة البوليفينولات عالية بما يكفي لضمان النضارة والاستقرار التأكسدي للزيت.

نتائج هذه المرحلة المثلى:

نكهات فواكهية متوازنة بين المرارة والحدة.

محتوى مرتفع من مضادات الأكسدة.

مردود اقتصادي مقبول دون المساس بالجودة.

📊 تأثير توقيت الحصاد على خصائص الزيت


🔬 كيف يمكن تحديد "نافذة الحصاد المثلى" عمليًا؟


التحليل المخبري الدوري:

قياس نسبة الزيت إلى المادة الجافة في عينات منتظمة من الثمار لتحديد الوصول إلى مرحلة الاستقرار (Plateau).

حساب مؤشر النضج (Ripeness Index):

من خلال تصنيف 100 ثمرة بحسب اللون (أخضر، محمر، بنفسجي، أسود) وفقًا لطريقة Hermoso et al., 1991.

التحليل الكيميائي كبوصلة النضج: الأحماض الدهنية دلالة لا تكذب


لتحويل عملية تحديد النضج من فإن تقديري إلى علم دقيق، يبرز تحليل التركيبة الحمضية للزيت كأحد أقوى الأدوات التشخيصية. فخلال عملية تكوُّن الدهون، لا تزيد نسبة الزيت فحسب، بل يتغير ملف الأحماض الدهنية تغيرًا نوعيًا يعكس حالة الثمرة الفسيولوجية بدقة. هنا، يصبح حمض اللينوليك (Linoleic Acid) وهو حمض دهني متعدد غير مشبع (Omega-6)، الدلالة الأبرز والأكثر حساسية لتتبع مسار النضج.

في المراحل المبكرة (الثمار الخضراء)، تكون نسبة حمض اللينوليك مرتفعة نسبيًا. ولكن مع تقدم النضج واكتمال عملية تكوُّن الدهون، تبدأ هذه النسبة في الانخفاض المنتظم والمطرد. يُعزى هذا الانخفاض إلى تحوُّل جزء من حمض اللينوليك إلى أحماض دهنية أخرى، وإلى استخدام الشجرة له كركيزة في عمليات الأيض اللاحقة. لذلك، فإن تتبع منحنى انخفاض نسبة هذا الحمض عبر تحليل عينات دورية يعطينا إشارة واضحة على تقدم الثمرة في مراحل نضجها.

بالتوازي مع ذلك، يأتي حمض الأوليك (Oleic Acid) – الحمض الأحادي غير المشبع والأكثر وفرة في زيت الزيتون – ليكمل الصورة. فمع انخفاض اللينوليك، ترتفع نسبة الأوليك بشكل عام حتى تصل إلى ذروتها، مما يعزز استقرار الزيت وقيمته الصحية. لكن الذروة الحقيقية للجودة – حيث التوازن بين النكهة والاستقرار – غالبًا ما تسبق بقليل وصول حمض الأوليك إلى أعلى نسبة مطلقة له.

وبالتالي، فإن النافذة المثلى للحصاد يمكن رصدها كيميائيًا عندما نلاحظ:

بدء استقرار منحنى انخفاض حمض اللينوليك بعد انخفاضه الحاد.

وصول نسبة حمض الأوليك إلى مستوى عالٍ ومستقر، قبل أن تبدأ – في بعض الأصناف – في الانخفاض الطفيف جدًا مع الإفراط في النضج.

هذا التحليل، المدعوم بمؤشرات مثل نسبة البوليفينول وحمض الأوليوروبين، يحول قرار الحصاد من مجرد تخمين بناءً على اللون إلى قرار استراتيجي قائم على بيانات كيميائية حية، يضمن للمنتج الحصاد في اللحظة التي يبلغ فيها "ذهبُه السائل" أقصى درجات توازنه بين العاطفة والعقل، بين النكهة الاستثنائية والكمية الاقتصادية.

مراقبة العوامل البيئية:

انخفاض درجات الحرارة الليلية يزيد من تراكم الزيت.

الري الخفيف قبل الحصاد يحسن التراكم لكن الإفراط يؤدي لضعف النكهة.

التغذية المتوازنة (خصوصًا عنصر البوتاسيوم) تدعم تكوين الزيت وتحسن ثباته.

🌍 هل يؤثر الصنف والموقع الجغرافي على موعد الحصاد؟


نعم، تختلف الفترة المثلى بين الأصناف والمناطق:

الأصناف المبكرة مثل Arbequina وKoroneiki تنضج قبل الأصناف الكبيرة مثل Picual وManzanilla.

في المناطق الحارة (مصر، الأردن، سوريا) يبدأ النضج أبكر بنحو 2–3 أسابيع عن المتوسط الأوروبي.

في المناطق الجبلية الباردة يتأخر النضج لكن ترتفع جودة الزيت الحسية.

⚙️ ما العلاقة بين توقيت الحصاد وأداء المعصرة؟


في الحصاد المبكر تكون الثمار أكثر صلابة والعجينة أكثر لزوجة، مما يتطلب:

ضبط درجة حرارة العجن (Malaxation Temperature) لتسهيل استخلاص الزيت دون الإضرار بمكوناته.

زيادة زمن الخلط بشكل معتدل.

الحفاظ على درجات حرارة منخفضة لتفادي فقدان المركبات العطرية والبوليفينولات.

🎨 هل الحصاد علم أم فن؟


إن اختيار توقيت جمع الزيتون هو مزيج دقيق من العلم والفن.

العلم يقدّم الأدوات والمعايير لقياس النضج والمحتوى الزيتي، بينما الفن يكمن في قراءة ملامح الطبيعة ومزاج الموسم.

المنتج المتميز هو من يدرك أن الزيت الجيد لا يُنتج بالصدفة، بل في تلك اللحظة السحرية التي تجمع بين المعرفة والخبرة والشغف.

🏁 الفقرة الختامية والتوصيات المستقبلية


إن تحديد التوقيت الأمثل لجمع الزيتون ليس مجرد إجراء زراعي موسمي، بل هو نقطة التقاء بين المزرعة والمعمل والمصنع والبحث العلمي، تمثل حجر الأساس في بناء صناعة زيت زيتون متكاملة ومستدامة.

فمن المزرعة، يبدأ النجاح بالالتزام بأسس الإدارة الزراعية الدقيقة، واستخدام مؤشرات النضج العلمية بدلاً من الاعتماد على الخبرة البصرية فقط.

وفي المعمل، تُترجم هذه الجهود إلى قياسات دقيقة لمحتوى الزيت والبوليفينولات والأحماض الدهنية لتأكيد النضج الأمثل.

أما في المصنع، فينبغي ضبط ظروف العصر والتخزين للحفاظ على الخصائص التي بنتها الشجرة بعناية.

ويكمل البحث العلمي الحلقة عبر تطوير أدوات التنبؤ بالحالة الفسيولوجية للثمار، وتحسين نظم الري والتغذية، واستخدام التحليل الطيفي والاستشعار عن بُعد (Remote Sensing) لتحديد “النافذة المثالية للحصاد” بدقة أكبر.

إن تحقيق أفضل جودة بأعلى عائد اقتصادي يتطلب تنسيقًا مؤسسيًا مستمرًا بين المزارعين، والباحثين، والمصانع، والجهات التنظيمية، لتطبيق نتائج الأبحاث ميدانيًا وتحديث الممارسات التقنية والإنتاجية بشكل دوري.

التوصيات الأساسية:


تأسيس برامج وطنية للرصد الحقلي والتحليل المعملي المشترك لتحديد توقيت الحصاد الأمثل لكل منطقة وصنف.

اعتماد بروتوكولات قياس موحدة لجودة الزيت الخام وربطها بمؤشرات النضج الحقلي.

تعزيز التعاون بين المراكز البحثية والمعاصر لتطبيق نتائج الدراسات على نطاق صناعي واسع.

تدريب المزارعين والفنيين على استخدام أدوات قياس النضج البصري والكيميائي البسيطة ميدانيًا.

تبنّي التحول الرقمي في الزراعة الزيتونية من خلال منصات متابعة ذكية تربط بيانات المزرعة بالتحليل المخبري والمخرجات الصناعية.

بهذا التكامل بين العلم والممارسة والإدارة الواعية يمكن لمزارع الزيتون أن يتحول من مصدر تقليدي للإنتاج إلى نموذج اقتصادي متقدم يجمع بين الاستدامة، والجودة، والربحية، ويعكس الوجه الحقيقي لثروة الزيتون في العالم العربي.

أقرأ إيضا

النشرة البريدية

تواصل معانا وتابعنا على منصات التواصل الإجتماعي

Tiktok logolinkedin logoinstagram logofacebook logoyoutube logoX logoEmail icon
.Copyright Zyotwdhon. All Rights Reserved ©