.png)

رئيس قسم الزيوت والدهون بمعهد بحوث الصناعات الغذائية والتغذية بالمركز القومي للبحوث.
لم تكن شجرة الزيتون في مصر مجرد نباتٍ مثمر، بل كانت — منذ أن خرجت من طور سيناء المبارك كما قال تعالى — رمزًا للحياة والنور والبركة التي جمعت بين الدين والحضارة والطبيعة.
«وشجرةً تخرج من طور سيناءَ تنبتُ بالدُّهنِ وصِبغٍ للآكلين»
وفي أرضٍ تتوسط بلاد الشام وفلسطين من الشرق، وحوض البحر المتوسط وأوروبا من الغرب، وجدت هذه الشجرة المباركة موطناً مثاليًا في تربة مصر ومناخها المتنوع، فكانت جسرًا حضاريًا عبرت من خلاله المعرفة الزراعية والتجارية بين الشرق والغرب.
من معابد الفراعنة إلى واحات سيوة وسيناء، ومن معاصر الفيوم القديمة إلى مختبرات الزيوت الحديثة، ظلّت مصر أرض الزيتون والنور؛ تحمل رسالته عبر العصور… وتغرس في العالم معنى البركة التي لا تنقطع.
إنها شجرة تعانق التاريخ والعقيدة والعلم، لتروي قصة أرضٍ عرفت الزراعة منذ فجر الإنسانية… وعلّمت العالم معنى البركة والخلود.
رغم أن المصريين عرفوا الزيتون في بيئتهم المحلية، فإن النقوش الفرعونية والنصوص الأثرية تشير إلى أن ملوك مصر القديمة استوردوا زيت الزيتون من بلاد كنعان (فلسطين الحالية)، التي كانت من أغنى مناطق الشرق الأدنى بإنتاج الزيت.
تُظهر برديات العمارنة ونقوش الكرنك بعثاتٍ تجارية من مصر إلى غزة ويافا وبيت شان لجلب كميات من الزيت والعطور والأخشاب.
وكان زيت الزيتون يُقدَّم ضمن الهدايا الملكية الفاخرة للفرعون، إذ اكتُشفت في مخازن القصور أوانٍ فخارية كنعانية الأصل تحمل رموز الجودة والمنشأ. كما وُجدت في تل العمارنة أختام مكتوب عليها بالخط المسماري عبارة “زيت جيد من كنعان”، ما يثبت وجود تجارة نشطة بين وادي النيل وبلاد الشام في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
وقد أسهم هذا التبادل في نقل أصناف شامية من الزيتون إلى مصر، لتختلط بالبذور المحلية وتُمهّد لتأسيس زراعة الزيتون المنظمة في الفيوم والدلتا. وهكذا أصبح الزيتون رمزًا لتكامل حضاري مبكر جمع بين بركة الطور الفلسطيني وخصوبة أرض النيل في شراكةٍ زرعت أول جذور العلاقة الأبدية بين مصر والزيتون.

في طور سيناء، الشجرة ليست مجرد زراعة، بل رمز مقدّس.
قال تعالى: "وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ" (المؤمنون: 20)
وهكذا خُلدت أرض الطور كأرض الزيتون المباركة، حيث يجتمع المعنى الروحي بالثراء الزراعي.
تحليل التربة في المنطقة يثبت احتواءها على عناصر معدنية تمنح الزيت نكهة فريدة، ويُنتج اليوم زيت سيناء الذهبي بحموضة تقل عن 0.5%.
أما واحة سيوة، فهي جوهرة الصحراء الغربية. تضم أكثر من 70 ألف شجرة زيتون من الأصناف المحلية التي تروى بمياه جوفية نقية، وتنتج زيوتًا نالت شهادة المنشأ المحمي (PDO) من الاتحاد الأوروبي لجودتها ونقائها.
في القرآن الكريم، ورد ذكر الزيتون في سبع سور، منها قوله تعالى:
"اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ" (النور: 35).
تشير أحدث البيانات الصادرة عن المجلس الدولي للزيتون (IOC) وتقارير الأسواق الزراعية الدولية إلى أن مصر أصبحت من الدول الرائدة عالميًا في زراعة الزيتون وإنتاج زيتون المائدة.
فقد بلغت المساحة المزروعة نحو 100 ألف هكتار (قرابة 250–270 ألف فدان)، بإجمالي إنتاج سنوي يقارب 950 ألف إلى مليون طن من الثمار، يُوجَّه معظمها إلى تصنيع زيتون المائدة الذي تستحوذ به مصر على نحو 23٪ من الإنتاج العالمي، بينما يُستخرج ما بين 35 إلى 40 ألف طن من زيت الزيتون سنويًا.
وتُظهر هذه الأرقام، المعتمدة من المجلس الدولي للزيتون (IOC) ومنصات تحليل السوق الدولية مثل IndexBox وOlive Oil Times، أن مصر تسير بخطى ثابتة نحو تعزيز مكانتها كمركز إقليمي لإنتاج وتصدير الزيتون وزيته، مدعومة بمشروعات قومية في سيناء ومطروح والواحات وتوسّع مستمر في الأصناف المحلية والمستوردة عالية الجودة.
من النقوش الفرعونية إلى معاصر الفيوم، ومن جبال الطور إلى مختبرات البحث العلمي، تظل شجرة الزيتون في مصر جسرًا بين الماضي والمستقبل، بين الأرض والسماء. هي شجرة لا تموت، لأنها تغرس جذورها في تاريخٍ يفيض بالحكمة، وتنمو في أرضٍ باركها الله، وتثمر زيتًا هو رمز النور والحياة.
تمثل شجرة الزيتون اليوم أحد أعمدة النهضة الزراعية والصناعية والتصديرية في مصر، فهي ليست مجرد محصول زراعي بل استثمار استراتيجي واعد يجمع بين بركة الأرض وقيمة الاقتصاد. تمتلك مصر كل المقومات التي تؤهلها لتكون قوة إقليمية في هذا القطاع؛ مناخٌ متوسطي معتدل، ومساحات شاسعة صالحة للزراعة في سيناء ومطروح والواحات، وخبرة متراكمة في التصنيع واستخلاص الزيت.
وإلى جانب ذلك، يأتي موقعها الجغرافي الفريد الذي يربط الشرق بالغرب، ويقع على مسافة واحدة من إسبانيا وإيطاليا واليونان وبلاد الشام — مهد الزيتون في العالم — مما يجعلها حلقة وصل طبيعية في السوق العالمي للزيتون وزيته.
إن الاستثمار في شجرة الزيتون هو رهان على مستقبل اقتصادي أخضر، يعزز الأمن الغذائي، ويدعم الصادرات، ويجسد رؤية مصر للتحول نحو اقتصاد مستدام قائم على القيمة المضافة والتميز الزراعي.
إنها رسالة مصر للعالم: أن البركة ليست في الزيت وحده، بل في الوعي والعلم والارتباط بالأرض، وأن من يزرع الزيتون… يزرع السلام.