شجرة من نور … الزيتون في ذاكرة الحضارة المصرية

تاريخ النشر:
November 2, 2025
أخر تعديل:
November 3, 2025

رئيس قسم الزيوت والدهون بمعهد بحوث الصناعات الغذائية والتغذية بالمركز القومي للبحوث.

مقدمة: شجرة الزيتون في مصر: نبتت في أرضٍ مباركة ونسجت تاريخ مصر عبر سبعة آلاف عام

لم تكن شجرة الزيتون في مصر مجرد نباتٍ مثمر، بل كانت — منذ أن خرجت من طور سيناء المبارك كما قال تعالى — رمزًا للحياة والنور والبركة التي جمعت بين الدين والحضارة والطبيعة.

«وشجرةً تخرج من طور سيناءَ تنبتُ بالدُّهنِ وصِبغٍ للآكلين»

وفي أرضٍ تتوسط بلاد الشام وفلسطين من الشرق، وحوض البحر المتوسط وأوروبا من الغرب، وجدت هذه الشجرة المباركة موطناً مثاليًا في تربة مصر ومناخها المتنوع، فكانت جسرًا حضاريًا عبرت من خلاله المعرفة الزراعية والتجارية بين الشرق والغرب.

من معابد الفراعنة إلى واحات سيوة وسيناء، ومن معاصر الفيوم القديمة إلى مختبرات الزيوت الحديثة، ظلّت مصر أرض الزيتون والنور؛ تحمل رسالته عبر العصور… وتغرس في العالم معنى البركة التي لا تنقطع.

إنها شجرة تعانق التاريخ والعقيدة والعلم، لتروي قصة أرضٍ عرفت الزراعة منذ فجر الإنسانية… وعلّمت العالم معنى البركة والخلود.

واردات ملوك مصر القديمة من فلسطين: حين عبر الزيت المقدّس البحر إلى النيل

رغم أن المصريين عرفوا الزيتون في بيئتهم المحلية، فإن النقوش الفرعونية والنصوص الأثرية تشير إلى أن ملوك مصر القديمة استوردوا زيت الزيتون من بلاد كنعان (فلسطين الحالية)، التي كانت من أغنى مناطق الشرق الأدنى بإنتاج الزيت.

تُظهر برديات العمارنة ونقوش الكرنك بعثاتٍ تجارية من مصر إلى غزة ويافا وبيت شان لجلب كميات من الزيت والعطور والأخشاب.

وكان زيت الزيتون يُقدَّم ضمن الهدايا الملكية الفاخرة للفرعون، إذ اكتُشفت في مخازن القصور أوانٍ فخارية كنعانية الأصل تحمل رموز الجودة والمنشأ. كما وُجدت في تل العمارنة أختام مكتوب عليها بالخط المسماري عبارة “زيت جيد من كنعان”، ما يثبت وجود تجارة نشطة بين وادي النيل وبلاد الشام في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.

وقد أسهم هذا التبادل في نقل أصناف شامية من الزيتون إلى مصر، لتختلط بالبذور المحلية وتُمهّد لتأسيس زراعة الزيتون المنظمة في الفيوم والدلتا. وهكذا أصبح الزيتون رمزًا لتكامل حضاري مبكر جمع بين بركة الطور الفلسطيني وخصوبة أرض النيل في شراكةٍ زرعت أول جذور العلاقة الأبدية بين مصر والزيتون.

1. الزيتون في مصر القديمة: عندما تحوّلت الشجرة إلى تراث مقدّس

  • من خلال أكثر من 120 نقشًا فرعونيًا وُجد في طيبة وسقارة، تبرز ملامح أولى عمليات عصر الزيتون واستخلاص زيته.
  • وفي مقبرة توت عنخ آمون، اكتُشفت 22 جرة فخارية تحتوي على بقايا زيت زيتون نقي — دلالة على قيمته الغذائية والطقسية.
  • في معبد مدامود بالأقصر، صُوّرت مشاهد تُظهر الكهنة وهم يدهنون أجساد الملوك بالزيت في طقوس التقديس الملكي.
  • طوّر المصريون القدماء تقنيات مبهرة تشمل معاصر حجرية دقيقة، وأوانٍ فخارية مقاومة للأكسدة، ومرشحات كتانية.
  • وكان زيت الزيتون جزءًا من المستحضرات الطبية والتحنيط، كما استُخدم في إضاءة المعابد، ما يعكس إدراكهم المبكر لقيمته الكيميائية والروحية.

2. كيمان فارس بالفيوم: أول مركز صناعي للزيتون في العالم القديم

  • في قلب الفيوم، كشفت الحفريات عن سبع معاصر حجرية كاملة من العصر البطلمي، إلى جانب نوى زيتون متفحمة أُثبت بالكربون المشع أنها تعود إلى 2500 عام قبل الميلاد.
  • كانت الفيوم تُعرف آنذاك بـ“مخزن الزيت”، حيث ابتكر المصريون أنظمة ريّ متقدمة للتحكم في المياه والملوحة، مما مكّنهم من إنتاج أصناف محلية مميزة مثل الزيتون الفيومي.
  • في العصر الروماني، بلغت صادرات الزيت المصري إلى روما وبلاد الشام عشرين ألف إجرة سنويًا، ما جعل الزيت المصري سلعة إستراتيجية تُذكر في سجلات التجارة القديمة.

3. سيناء وسيوة ومطروح: واحات البركة حيث تلتقي السماء بالأرض

في طور سيناء، الشجرة ليست مجرد زراعة، بل رمز مقدّس.

قال تعالى: "وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ" (المؤمنون: 20)

وهكذا خُلدت أرض الطور كأرض الزيتون المباركة، حيث يجتمع المعنى الروحي بالثراء الزراعي.

تحليل التربة في المنطقة يثبت احتواءها على عناصر معدنية تمنح الزيت نكهة فريدة، ويُنتج اليوم زيت سيناء الذهبي بحموضة تقل عن 0.5%.

أما واحة سيوة، فهي جوهرة الصحراء الغربية. تضم أكثر من 70 ألف شجرة زيتون من الأصناف المحلية التي تروى بمياه جوفية نقية، وتنتج زيوتًا نالت شهادة المنشأ المحمي (PDO) من الاتحاد الأوروبي لجودتها ونقائها.

4. العصر الإسلامي والمملوكي: الزيتون عملة البركة والتجارة

  • مع دخول الإسلام، اتخذ الزيتون بُعدًا دينيًا واقتصاديًا جديدًا.
  • سجّل المقريزي أن القاهرة كانت تضم أكثر من 45 سوقًا لبيع الزيوت، وأن زيت الزيتون كان يستخدم في الطعام والعلاج والإنارة والمساجد.
  • في الوثائق المملوكية، نجد إشارات إلى نظم رقابة للجودة، وتحديد مواصفات دقيقة للبيع والتخزين.
  • وفي مسجد عمرو بن العاص، ظل الزيتون مصدر الإنارة لأكثر من خمسمائة عام.
  • كما ازدهرت الصناعات القائمة عليه: الصابون والعطور والمراهم الطبية، مما جعل الزيت المصري منتجًا ثقافيًا واقتصاديًا بامتياز.

5. محمد علي والى مصر الحديثة: الزيتون بين التنمية والعلم

  • في القرن التاسع عشر، بدأ محمد علي باشا إدخال أنظمة زراعية جديدة، فأنشأ مزارع زيتون تجريبية في النوبارية والبحيرة.
  • ومع منتصف القرن العشرين، توسعت الزراعة في مطروح وسيناء بفضل برامج الإرشاد الزراعي.
  • تُعد مصر اليوم من أكبر عشر دول منتجة للزيتون في العالم، والأولى عالميًا في إنتاج زيتون المائدة، بمساحة مزروعة تقارب 250 ألف فدان وإنتاج سنوي يناهز مليون طن من الثمار.
  • كما يبلغ إنتاجها من زيت الزيتون نحو 40 ألف طن سنويًا، وتُصدّر منتجاتها إلى أكثر من 35 دولة، مستفيدة من مناخها المتوسطي وموقعها بين أهم أسواق العالم.
  • كما أُنشئت معاصر آلية حديثة تعتمد على التبريد البارد للحفاظ على الجودة الكيميائية والنكهة الطبيعية.

6. الزيتون في الموروث الديني والروحي: شجرة تربط الأرض بالسماء

في القرآن الكريم، ورد ذكر الزيتون في سبع سور، منها قوله تعالى:

"اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ" (النور: 35).

  • وفي الإنجيل، حملت الحمامة غصن الزيتون علامة للسلام بعد الطوفان.
  • وفي التوراة، ذُكر الزيت كرمز للطهارة والنور الإلهي.
  • أما في الكنيسة القبطية المصرية، فيُستخدم زيت الزيتون في طقوس التعميد والبركة.
  • وهكذا تتلاقى الديانات السماوية الثلاث على أرض واحدة… هي مصر أرض الطور والزيتون.

7. الزيتون والعلم الحديث: من المختبر إلى المائدة

  • يحتوي الزيتون المصري على أكثر من 45 مركبًا فنوليًا مضادًا للأكسدة، أبرزها الأوليوروبين الذي يمنح الطعم المرّ ويقي من أمراض القلب.
  • تشير الأبحاث الحديثة إلى أن زيت الزيتون المصري يمتلك خصائص مضادة للالتهابات والسرطان، ويُستخدم في تطوير مستحضرات تجميل طبيعية وصناعات غذائية وظيفية.
  • كما تُستغل أوراق الزيتون ومخلفاته في إنتاج مستخلصات طبية ومضادات أكسدة طبيعية.

8. أحدث الإحصائيات في مصر لزراعة الزيتون وإنتاج زيت الزيتون

تشير أحدث البيانات الصادرة عن المجلس الدولي للزيتون (IOC) وتقارير الأسواق الزراعية الدولية إلى أن مصر أصبحت من الدول الرائدة عالميًا في زراعة الزيتون وإنتاج زيتون المائدة.

فقد بلغت المساحة المزروعة نحو 100 ألف هكتار (قرابة 250–270 ألف فدان)، بإجمالي إنتاج سنوي يقارب 950 ألف إلى مليون طن من الثمار، يُوجَّه معظمها إلى تصنيع زيتون المائدة الذي تستحوذ به مصر على نحو 23٪ من الإنتاج العالمي، بينما يُستخرج ما بين 35 إلى 40 ألف طن من زيت الزيتون سنويًا.

وتُظهر هذه الأرقام، المعتمدة من المجلس الدولي للزيتون (IOC) ومنصات تحليل السوق الدولية مثل IndexBox وOlive Oil Times، أن مصر تسير بخطى ثابتة نحو تعزيز مكانتها كمركز إقليمي لإنتاج وتصدير الزيتون وزيته، مدعومة بمشروعات قومية في سيناء ومطروح والواحات وتوسّع مستمر في الأصناف المحلية والمستوردة عالية الجودة.

خاتمة: شجرة الخلود… رسالة مصر إلى العالم

من النقوش الفرعونية إلى معاصر الفيوم، ومن جبال الطور إلى مختبرات البحث العلمي، تظل شجرة الزيتون في مصر جسرًا بين الماضي والمستقبل، بين الأرض والسماء. هي شجرة لا تموت، لأنها تغرس جذورها في تاريخٍ يفيض بالحكمة، وتنمو في أرضٍ باركها الله، وتثمر زيتًا هو رمز النور والحياة.

تمثل شجرة الزيتون اليوم أحد أعمدة النهضة الزراعية والصناعية والتصديرية في مصر، فهي ليست مجرد محصول زراعي بل استثمار استراتيجي واعد يجمع بين بركة الأرض وقيمة الاقتصاد. تمتلك مصر كل المقومات التي تؤهلها لتكون قوة إقليمية في هذا القطاع؛ مناخٌ متوسطي معتدل، ومساحات شاسعة صالحة للزراعة في سيناء ومطروح والواحات، وخبرة متراكمة في التصنيع واستخلاص الزيت.

وإلى جانب ذلك، يأتي موقعها الجغرافي الفريد الذي يربط الشرق بالغرب، ويقع على مسافة واحدة من إسبانيا وإيطاليا واليونان وبلاد الشام — مهد الزيتون في العالم — مما يجعلها حلقة وصل طبيعية في السوق العالمي للزيتون وزيته.

إن الاستثمار في شجرة الزيتون هو رهان على مستقبل اقتصادي أخضر، يعزز الأمن الغذائي، ويدعم الصادرات، ويجسد رؤية مصر للتحول نحو اقتصاد مستدام قائم على القيمة المضافة والتميز الزراعي.

إنها رسالة مصر للعالم: أن البركة ليست في الزيت وحده، بل في الوعي والعلم والارتباط بالأرض، وأن من يزرع الزيتون… يزرع السلام.

أقرأ إيضا

النشرة البريدية

تواصل معانا وتابعنا على منصات التواصل الإجتماعي

Tiktok logolinkedin logoinstagram logofacebook logoyoutube logoX logoEmail icon
.Copyright Zyotwdhon. All Rights Reserved ©