من رمال وادي سوف يزهر "دوّار الشمس": تجارب فلاحية ناجحة في الجنوب الجزائري

زيت النخيل أصبح وقودا لسيارات السباقات
October 22, 2025

تشهد ولاية وادي سوف حالياً حراكاً فلاحياً متصاعداً، أهّلها لتكون نموذجاً رائداً في استغلال موارد الصحراء لإنتاج محاصيل استراتيجية جديدة، أبرزها "دوار الشمس". تتوسع زراعة هذا المحصول تدريجياً، لتصبح ركيزة أساسية ضمن برنامج تطوير الزراعات الزيتية في الجزائر. فبعد نجاح تجاربها في بلديات مثل تغزوت، قمار، وحاسي خليفة، أصبح دوار الشمس محط اهتمام السلطات المحلية والمهندسين الزراعيين، كونه مصدراً بديلاً للزيوت النباتية ومورداً اقتصادياً جديداً يعزز الأمن الغذائي الوطني، ويؤكد قدرة الجنوب الجزائري على التحول إلى منطقة إنتاجية متنوعة ومستدامة.

لقد شهدت زراعة دوار الشمس في ولاية الوادي في السنوات الأخيرة قفزة نوعية ملحوظة، حيث انتقلت من تجارب محدودة في بعض المستثمرات إلى نشاط فلاحي منظم ومدعوم رسمياً ومرفق بتقنيات متخصصة. هذه الزراعة، التي بدأت على مساحات صغيرة في تغزوت، قمار، وحاسي خليفة، أظهرت نتائج مشجعة على مستوى الإنتاج وجودة البذور. هذا ما دفع السلطات إلى توسيع نطاقها ضمن استراتيجية وطنية تهدف إلى تقليص فاتورة استيراد الزيوت النباتية وتعزيز الإنتاج المحلي. وبفضل المناخ الملائم والتربة الرملية الخصبة، أصبحت الوادي اليوم تمثل أحد النماذج الميدانية لنجاح الزراعات الزيتية في جنوب الجزائر.

يعزو المهندسون الزراعيون هذا النجاح إلى المزاوجة بين التجربة الميدانية والخبرة التقنية التي اكتسبها الفلاحون من خلال برامج التكوين والإرشاد الزراعي التي نظمتها غرفة الفلاحة بالولاية. لم تقتصر هذه البرامج على الجانب النظري، بل شملت زيارات ميدانية وتطبيقات عملية مكنت الفلاحين من إتقان مراحل الزراعة، الري، والحصاد وفق معايير حديثة. هذا الدعم التقني أعاد الثقة للمستثمرين المحليين، وشجعهم على خوض غمار زراعة غير تقليدية للمنطقة، والتي أثبتت مردودية عالية وقدرة على التكيف مع المناخ الصحراوي.

لم يكن هذا التحول بمعزل عن السياسة الوطنية لتطوير الزراعات الاستراتيجية، حيث أدرجت وزارة الفلاحة زراعة دوار الشمس ضمن أولوياتها في الجنوب، في إطار رؤية استشرافية لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الزيوت النباتية. وبذلك، أصبحت الوادي محطة رئيسية في هذا التوجه، حيث تسعى السلطات لتوسيع المساحات المزروعة وربطها بمسارات التحويل الصناعي لإنتاج الزيت محلياً. هذا التدرج يعكس انتقال الولاية من مرحلة التجريب إلى مرحلة البناء الفعلي لسلسلة إنتاج متكاملة تجمع بين الزراعة الأولية والتصنيع الغذائي، مما يعزز مكانة الفلاحة الصحراوية كأحد دعائم الاقتصاد الوطني الجديد.

عباد الشمس... مورد اقتصادي واعد في طريق التوسع

أثبتت تجارب ولاية الوادي في زراعة دوار الشمس قدرة هذا المحصول على لعب دور اقتصادي هام في تنويع الإنتاج الزراعي وتعزيز القيمة المضافة للقطاع الفلاحي، خصوصاً في المناطق الصحراوية التي تبحث عن بدائل مجدية للزراعات التقليدية. فالإنتاج المتزايد من بذور دوار الشمس يفتح المجال أمام قيام صناعة تحويلية جديدة في الجنوب، تستهدف إنتاج الزيوت النباتية محلياً وتقليص الاعتماد على الاستيراد الذي يكبد الخزينة العامة مئات الملايين من الدولارات سنوياً. وبذلك، تتحول هذه الزراعة الفتية من تجربة محلية إلى رافعة اقتصادية يمكن أن تضع الجزائر في موقع تنافسي إقليمي في مجال الزراعات الزيتية خلال السنوات القادمة.

يؤكد خبراء الفلاحة أن مردودية دوار الشمس في الأراضي الرملية للوادي فاقت التوقعات، حيث توفر طبيعة التربة الجافة وارتفاع نسبة الإشعاع الشمسي ظروفاً مثالية للنمو. شجع هذا الأمر العديد من الفلاحين الشباب على خوض التجربة، مستفيدين من التسهيلات الحكومية في مجالات التمويل، الإرشاد، والتسويق. كما أسهم ارتفاع الطلب على الزيوت الطبيعية في الأسواق المحلية والعالمية في زيادة الاهتمام بالمحاصيل الزيتية، مما جعل من دوار الشمس فرصة حقيقية لتوجيه الاستثمارات نحو الجنوب في إطار سياسة الأمن الغذائي الوطني.

على الرغم من محدودية المساحات المزروعة حتى الآن، إلا أن المؤشرات الحالية تُظهر نمواً تصاعدياً واضحاً، حيث يتزايد عدد الفلاحين المنخرطين في زراعة دوار الشمس موسماً بعد آخر، بفضل النتائج الميدانية المشجعة والضمانات التقنية التي تقدمها المؤسسات العمومية المختصة. وتعمل غرفة الفلاحة بالتنسيق مع مديرية المصالح الفلاحية على إعداد خارطة طريق تهدف إلى مضاعفة المساحات المزروعة خلال المواسم القادمة، مع التركيز على دمج هذه الزراعة ضمن الدورة الزراعية المستدامة إلى جانب القمح والبطاطا، بما يضمن توازناً بيئياً واقتصادياً ويمنح الفلاحين استقراراً إنتاجياً على مدار العام.

من الحقل إلى المصنع... سلسلة إنتاج واعدة في طور التشكيل

تمثل زراعة دوار الشمس في الوادي خطوة أولى نحو بناء سلسلة إنتاج متكاملة تبدأ من الحقول وتنتهي في وحدات التحويل الصناعي. فنجاح التجارب الزراعية لا يكتمل إلا بتطوير صناعة تحويلية قادرة على استيعاب الإنتاج وتحويله إلى زيوت ومشتقات غذائية وصناعية محلية الصنع. تشير مصادر من وزارة الفلاحة إلى أن المرحلة القادمة ستركز على جذب مستثمرين لإنشاء مصانع صغيرة ومتوسطة لاستخلاص الزيوت وتكريرها، مع تشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتسريع هذا المسار. يهدف هذا التوجه إلى خلق قيمة مضافة حقيقية للمنتج المحلي وتحويله إلى سلعة قابلة للتسويق والتصدير بدلاً من الاكتفاء بالمرحلة الزراعية.

تسعى السلطات المحلية في الوادي إلى الاستفادة من البنية التحتية القائمة وشبكة النقل التي تربط الولاية ببقية مناطق البلاد لتسهيل نقل المنتج نحو وحدات التحويل، سواء داخل الولاية أو في ولايات مجاورة مثل بسكرة وورقلة. كما يجري التفكير في إنشاء وحدات صغيرة متنقلة لمعالجة البذور في عين المكان، لتقليص التكاليف وتحسين مردودية الفلاحين. هذه الخطوات، وإن كانت في بداياتها، تعكس وعياً متزايداً بضرورة الانتقال من الزراعة الأولية إلى الصناعة الفلاحية التحويلية التي تمثل الحلقة المفقودة في أغلب المشاريع الزراعية السابقة.

يرى مختصون في الاقتصاد الزراعي أن نجاح هذه التجربة في بناء سلسلة متكاملة سيجعل من الوادي مركزاً محورياً في تطوير الزراعات الصناعية في الجنوب، ليس فقط في مجال دوار الشمس، بل أيضاً في المحاصيل ذات الاستخدام المزدوج بين الغذاء والطاقة مثل الكولزا والصوجا. فكل هكتار جديد يزرع في الرمال اليوم، يمكن أن يتحول غداً إلى قيمة اقتصادية مضافة تسهم في تحقيق الأمن الغذائي والطاقة المستدامة للبلاد، وتؤكد أن الجنوب الجزائري قادر على أن يكون خزان الإنتاج الزراعي الوطني إذا ما أُحسن استغلال إمكاناته الطبيعية والبشرية.

الوادي... نموذج للزراعة الذكية في بيئة صحراوية قاسية

لقد أثبتت تجربة دوار الشمس في ولاية الوادي أن الزراعة الصحراوية أصبحت واقعاً قابلاً للتوسع بفضل التقنيات الحديثة وإرادة الفلاحين المحليين. فالمنطقة التي كانت معروفة بإنتاج البطاطا والخضر الموسمية، أصبحت اليوم ميداناً للتجارب في الزراعات الصناعية ذات القيمة العالية، وهو ما يعكس تحولاً عميقاً في الفكر الفلاحي من الاعتماد على زراعة الاستهلاك إلى زراعة التصنيع. يعزز هذا التحول البحوث الميدانية التي تنجزها الجامعات ومراكز البحث الزراعي بالشراكة مع غرف الفلاحة، من خلال دراسات حول التربة، نسب الملوحة، والري بالتنقيط، بهدف توفير نموذج زراعي ذكي قادر على التكيف مع بيئة قاسية واستغلال كل قطرة ماء وكل متر مربع من الأرض.

ومع استمرار دعم الدولة للمبادرات المحلية، بدأت ملامح نموذج تنموي جديد تتشكل في الوادي، يقوم على التنويع الزراعي، التصنيع الميداني، والابتكار التقني. تحولت زراعة دوار الشمس إلى رمز للقدرة على تحويل الصحراء إلى مصدر إنتاج حقيقي. وبهذا المعنى، تجسد الوادي اليوم صورة الجنوب المنتج لا المستهلك، الجنوب الذي يزرع الزيت في الرمال ليغذي اقتصاداً وطنياً يتطلع إلى تحقيق أمنه الغذائي بموارده الذاتية وبسواعد فلاحيه الذين جعلوا من الصحراء أرضاً خصبة للأمل والعمل.


المصدر: الأيام نيوز

النشرة البريدية

تواصل معانا وتابعنا على منصات التواصل الإجتماعي

Tiktok logolinkedin logoinstagram logofacebook logoyoutube logoX logoEmail icon
.Copyright Zyotwdhon. All Rights Reserved ©